لقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالي أن تختلف آراء الناس في صغير الأمور وكبيرها, وذلك لأنه عز وجل خلقهم مختلفين في العلم والفهم, وفي الأمزجة والميول والرغبات والتوجهات,
وغالبا ما يؤدي اختلاف الناس إلي حدوث الخصام والنزاع بين أفراد المجتمع أو بين جماعاته بجميع فئاتهم, وهذا أمر طبيعي وسنة إلهية مشاهدة, قال تعالي:( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين, إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)( هود:118,119).
وأسباب هذا الخلاف والنزاع كثيرة لا حصر لها, ولكن غالبا ما تكون هذه الخلافات في بداياتها اختلافات سهلة يسيرة يمكن تلافيها لو أحسن الناس التصرف وراعوا حق إخوانهم واتبعوا أوامر الله سبحانه, ولكن الشيطان والنفس الأمارة بالسوء والهوي المتبع وأهل الإفساد والشر والنميمة كل هذا يكون له كبير الأثر في إيقاع البغضاء بين الناس وإذكاء نار العداوة حتي تتحول الشرارة إلي فتنة عظيمة وشر مستطير له عواقبه الوخيمة, فيقع الإثم وتحل القطيعة ويتفرق الشمل, بل تهتك الأعراض وتسفك الدماء وتنتهك الحرمات, وتفسد ذات البين وتقع الحالقة التي تحلق الدين, قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:' ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة'؟ قالوا بلي. قال: 'إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة, لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين'( سنن الترمذي663/4)
ولم يترك الله تعالي الناس هملا يتمادون في هذه النزاعات, بل شرع لهم طريقا الي منعها, وهو اتباع سبيل إصلاح ذات البين, يقول الله عز وجل:( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما)( النساء:114) وقال تعالي:( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون)( الحجرات:10)
وإصلاح ذات البين هو السعي والتوسط بين المتخاصمين لأجل رفع الخصومة والاختلاف عن طريق التراضي والمسألمة نجنبا لحدوث البغضاء والتشاحن وإيراث الضغائن, ويكون السعي بين الناس بغرض الإصلاح بأن ينمي الساعي خيرا ويقول خيرا.
وقد حرص رسول الله صلي الله عليه وسلم علي وحدة المسلمين وأكد علي إخوانهم وأمر علي أن الصلح بين المتخاصمين من أفضل الأعمال, فقال: ما عمل ابن آدم شيئا أفضل من الصلاة وصلاح ذات البين وخلق حسن( شعب الإيمان429/12), بل باشر صلي الله عليه وسلم بنفسه حين تنازع أهل قباء فندب أصحابه وقال: 'أذهبوا بنا نصلح بينهم'( البخاري183/3), وكذلك كان أصحابه رضوان الله عليهم, فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي من يوليه ويقول: ردوا الخصوم حتي يصطلحون فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن( سنن البيهقي109/6), والسلف رحمهم الله كانوا حريصين علي هذا الخير ساعين فيه, يقول الإمام الأوزاعي رحمة الله: ما من خطوة أحب إلي الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين, وكان الرجال العظام والمشايخ وأصحاب الجاه في السابق من أفراد كل قرية يندبون أنفسهم لهذا العمل ويعتبرونه من تمام الشرف والعز.
ولم يقتصر الصلح علي المسلمين فيما بينهم, بل شمل أبناء الوطن الواحد ولو كانوا غير مسلمين, اقتداء بما فعله النبي صلي الله عليه وسلم, حين باع ليهودي تمرا بثمن معلوم علي أن يسلمه له بعد مدة, فاستعجل اليهودي التمر قبل حلول الأجل, وعامل رسول الله صلي الله عليه وسلم بما لا يليق, حتي هم عمر بن الخطاب بإيذائه, فخاف الرجل, وقال النبي لعمر:' أنا وهو كنا إلي غير هذا منك أحوج, أن تأمرني بحسن الأداء, وتأمره بحسن التباعة, اذهب به ياعمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعا من تمر مكان ما روعته'( سنن البيهقي)86/6)
وفي هذا الزمان تتأكد أهمية السعي لإصلاح ذات البين الذين كان وظيفة الأنبياء والعلماء والصالحين, والذي كان عادة للمشايخ وكبار القوم, وكان هدفا ومقصدا لكل صالح مصلح محب للخير بين الناس, ومريد لجلب المودة والتآلف بين القلوب.
إن الله عز وجل شرع في دينه من الأحكام ما يؤدي الي تماسك المجتمع, وندب إليها, وسن رسول صلي الله عليه وسلم مايزيل الضرر عن الفرد والمجتمع, وحث المسلمين علي التمسك بوحدة مجتمعهم, وأكد أن الطريق الي ذلك التماسك بين فئات المجتمع المختلفة هو اتباع السبل التي ندب إليها الله تعالي ورسوله صلي الله عليه وسلم, ومن أهمها السعي بالإصلاح بين الناس, مع إخلاص النية وإيكال الأمر الي الله تعالي والتيقن من أن التوفيق بيده:( وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب)( هود:88)
------------------------------------------------------------------------------
بقلم: د. علي جمعة