للصوم ثلاث درجات:
صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص.
أما صوم العموم فهو: كفُّ البطن والفرج عن قضاء الَّشهوة، كالأكل والشرب والجماع.
و أما صوم الخصوص فهو: كفُّ البطن والفرج، مع كفِّ الجوارح الستة، وهي:
(الَّسمْع والبَصر واللَِّسان واليد والرِّجْل والفَرْج) عن الآثام، فإنَّ ما يرتكبه المسلم من آثامٍ أثناء صومه تنقص من ثوابه، وتحجب عنه الكثير من نفحات هذا الشهر الكريم؛ حيث إن الصوم الصحيح غير المقترن بالمعاصي في حدِّ ذاته واقٍ لصاحبه من النار، ومُلابَسةُ الصائم للمعاصي يُعْتَ خَرْقًا لهذا الواقي، وهذا المعنى مروي عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم في قوله: «الَّصوْمُ جُنَّةٌ، مَا يَخْرِقْهُ » (58)،
ومعنى جُنَّة: وقاية، قال ابن العربي: " ِإنَّمَا كَانَ الَّصوْمُ جُنَّةً مِنَ النَّار؛ لَِأنَّهُ ِإمَْساكٌ عَنْ الَّشهَوَاتِ، وَالنَّارُ مُحفوفَةٌ بِالَّشهَوَاتِ". قال ابن حجر معقِّبًا: "فَا لحاصل َأنَّهُ ِإذَا كَفَّ نَفَْسهُ عَنِ الَّشهَوَات في الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكََ ساتِرًا لَهُ مِنَ النَّار في الآْخِرَة" .(59)
فالخصوص من المؤمنين هم الذين يسعون لسلامة صيامهم من آلاثام، مجاهدين لأنفسهم في ذلك، بكفِّ جوارحهم عن المعاصي.
فكفُّ السمع: بعدم الإصغاء إلى ما نُهِيَ عنه، كالتجُّسس على الناس، وسائر الأقوال المحرمة كالغِيبة والنميمة وغير ذلك، بخلاف ما إذا دخل عليه ذلك قهرًا وكرهه، ولزمه الإنكار إن قدر.
وكفُّ البصر: بعدم النظر إلى ما يُذم شرعًا، وإلى ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله، فيجب على الصائمأن يحفظ عينه عن المحرمات، فإنما خُلقت العين ليُهْتَدَى بها في الظلمات، ويستعان بها في الحاجات، وينظر بهاإلى عجائب ملكوت الأرض والسماوات ويعتبر بما فيها من الآيات.
ومما ورد في كفِّ البصر قول النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم لِعَلِيٍّ: «يَا عَلِيُّ لا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَِإنَّ لَكَ الُأولَى وَلَيْستْ لَكَ الآخِرَةُ» (60).
وروي عن سيدنا عيسى -عليه السلام-أنه قال: "إيَّاكم والنظرة، فإنها تزرع في القلب شهوة"( 61 )، وُسئِلَ الجنيْد -رضي الله عنه-: بِمَ يُستعان على غِّض البصر؟ فقال: بعلمكأن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما تنظره( 62 ).
وكفُّ اللسان: بحبسه عن الهذيان والكذب والغِيبة والنميمة والفحش، و لااستهزاء بالناس، و شهادة الزور، والخلف في الوعد،إذا وعده وهو يضمر الخلف.
وكفُّ اليد: بحَبْسها عن البطش بِمُحرَّم من كَسب أو فاحشة أو تَعَدٍّ، كالتطفيف في الكَيْل والوزن، والسَّرقة، وأخذ الر شوة و إعطائها، ولعب الميسر -وهو كل ما فيه قمار-، وكتابة ما يحرم النطق به، والتطاول على الناس بالأذى والضرب.
وكفُّ الرِّجل: بحبسها عن السعي إلى ما لم يؤمر به و يُندب إليه، كالمشي في وشاية ِبُْمسلِم إلى حاكم أو غيره، والسعي إلى الحرام، والمرور بين يدي المصلي قصدًا من غير حاجة.
وكفُّ الفرج: بمنعه عمَّا لا يحلُّ للصائم في نهار رمضان كالجماع، وكفِّه أيًضا عمَّا لا يحل للصائم ولا لغيره: كالزِّنا، واللواط، وإتيان البهائم، و لااستمناء باليد، والوطء في الحيض.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكفِّ اللسان عن قبائح الأقوال، وكفِّ الجوارح عن قبائح الأفعال، في كلامٍ جامعٍ، فقال: «الِّصيَامُ جُنَّةٌ، فَِإذَا كَانََ أحَدُكُمْ َصائِمًا فَلا يَرْفُثْ وَلا يَجْهَلْ، فَِإنِ امْرٌُؤ قَاتَلَهَُ أوَْشاتَُمه فَلْيَقُلْ:ِإنِّيَ صائِمٌِ إنِّي َصائِمٌ » (63). ويرفث بضمِّ الفاء وكسرها، والمراد بالرَّفَث هنا: الكلام الفاحش، وهو يُطلق على هذا وعلى الجماع وعلى مقدماته( 64 ).
وما ذكرناه من كف الجوارح واجب مطلقًا في الصوم والإفطار، ذكرناه في خصوص الصيام؛ لأن الحرمَة فيه أشدُّ من الحرمة في غيره، قال القرطبي: "لا يُفهم من هذا أن غير الصوم يباح فيه ما ذكر، وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكد بالصوم"( 65 )، فينبغي للصائم أن يحفظ جوارحه من كل ما فيه حرمة، كما قيل:
إذا لم يَكُن في الَّسمعِ مني تصامُمٌ***وفي مُقْلَتي غٌَّض وفي مَنطِقيَ صمْتُ
فحَظِّي إذًا منَصوْمِيَ الجوعُ والظَّما**وإن قُلْتُ إنيُ صمْتُ يومًا فَمَاُ صمْتُ
فإذا لم يزل الإنسان متبعًا هواه عاكفًا على معصية مولاه، فليعلم أنه لم ينل ثواب صوم رمضان، وإنما هو جائع عطشان. قال صلى الله عليه وآله و سلم: «رُبََّ صائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنِْ صيَامِهِِ إلَّا الجوْعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِِ إلَّا الَّسهَرُ» (66)، وقال: «مَنْ لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌَأنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وََشراَبَهُ » (67).
و أماصوم خصوص الخصوص: فهو زيادة على ماسبق:صوم القلب عن الهمم الدَّنِيَّة، والخواطر الشهوانية، وكفه عما سوى الله بالكلية( 68 )، فلا يتعلق قَلْبُه إلا بالله، مع ممارسته لحياته العادية لتحقيق مراد الله في إعمار الكون.
====================================================
(58)أخرجه ابن خزيمة فيصحيحه ( 3/ 194 ).
( 59 ) ينظر: فتح الباريشرحصحيح البخاري ( 4/ 104 ).
(60) أخرجه أبو داود ( 1/ 652 )، ط دار الفكر، والترمذي ( 5/ 101 )، وقال: هذا حديث حسن غريب.
(61) أخرجه البيهقي في الزهد الكبير (ص 167 )، ط 1 دار الجنان، مؤس سة الكتب الثقافية، بيروت،سنة 1408 ه، وابن
الأعرابي في الزهد وصفة الزاهدين (ص 72 )، ط 1 دار الصحابة للتراث، طنطا،سنة 1408 ه.
(62 ) ينظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي (ص 162 )، ط 1 دار المعرفة، بيروت،سنة 1408 ه.
(63) أخرجه مسلم ( 2/ 806 )، وأبو داود فيسننه ( 1/ 720 )، وابن ماجه فيسننه (1/ 539 )، واللفظ لأبي داود.
(64 ) ينظر: فتح الباري بشرحصحيح البخاري ( 4/ 104 ).
( 65 ) المرجع السابق.
( 66 ) أخرجه الن سائي في ال سنن الكبرى ( 2/ 239 )، ط 1 دار الكتب العلمية، بيروت،سنة 1411 ه، وابن ماجه فيسننه .(539/1)
(67) أخرجه البخاري ( 2/ 673 ).