المعنى الثاني: مما يراد بالبر فعل الطاعات كلها وضده الإثم، وقد فسر الله تعالى البر بذلك في قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} الآية، البقرة: 177 ، فتضمنت الآية: أن أنواع البر ستة أنواع من استكملها فقد استكمل البر:
أولها: الإيمان بأصول الإيمان الخمسة.
وثانيها: إيتاء المال المحبوب لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب.
وثالثها: إقام الصلاة.
ورابعها: إيتاء الزكاة.
وخامسها: الوفاء بالعهد.
وسادسها: الصبر على البأساء والضراء وحين البأس،
وكلها يحتاج الحاج إليها فإنه لا يصح حجه بدون الإيمان ولا يكمل حجه ويكون مبرورا بدون إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإن أركان الإسلام بعضها مرتبط ببعض فلا يكمل الإيمان والإسلام حتى يؤتى بها كلها ولا يكمل بر الحج بدون الوفاء بالعهود في المعاقدات والمشاركات المحتاج إليها في سفر الحج وإيتاء المال المحبوب لمن يحب الله إيتاءه ويحتاج مع ذلك إلى الصبر على ما يصيبه من المشاق في السفر، فهذه خصال البر، ومن أهمها للحاج: إقام الصلاة، فمن حج من غير إقام الصلاة لا سيما إن كان حجه تطوعا كان بمنزلة من سعى في ربح درهم وضيع رأس ماله وهو ألوف كثيرة، وقد كان السلف يواظبون في الحج على نوافل الصلاة وكان النبي صلى الله عليه وسلم ((يواظب على قيام الليل على راحلته في أسفاره كلها ويؤتر عليها))، وحج مسروق فما نام إلا ساجدا، وكان محمد بن واسع يصلي في طريق مكة ليله أجمع في محمله يومئ إيماء ويأمر حاديه أن يرفع صوته خلفه حتى يشغل عنه بسماع صوت الحادي فلا يتفطن له، وكان المغيرة بن حكيم الصنعاني يحج من اليمن ماشيا وكان له ورد بالليل يقرأ فيه كل ليلة ثلث القرآن فيقف فيصلي حتى يفرغ من ورده ثم يلحق بالركب متى لحق فربما لم يلحقهم إلا في آخر النهار، سلام الله على تلك الأرواح، رحمة الله على تلك الأشباح، ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل:
نزلوا بمكة في قبائل هاشم*** ونزلت بالبيداء أبعد منزل
فنحن ما نأمر إلا بالمحافظة على الصلاة في أوقاتها ولو بالجمع بين الصلاتين المجموعتين في وقت إحداهما بالأرض فإنه لا يرخص لأحد أن يصلي صلاة الليل في النهار ولا صلاة النهار في الليل ولا أن يصلي على ظهر راحلته المكتوبة إلا من خاف الانقطاع عن رفقته أو نحو ذلك مما يخاف على نفسه، فأما المريض ومن كان في ماء وطين ففي صلاته على الراحلة اختلاف مشهور للعلماء، وفيه روايتان عن الإمام أحمد وأن يكون بالطهارة الشرعية بالوضوء بالماء مع القدرة عليه والتيمم عند العجز حسا أو شرعا، ومتى علم الله من عبد حرصه على إقام الصلاة على وجهها أعانه.
***********************
تقديم حق الله تعالى على هوى النفس
************************
قال بعض العلماء: كنت في طريق الحج وكان الأمير يقف للناس كل يوم لصلاة الفجر، فينزل فيصلي ثم نركب فلما كان ذات يوم قرب طلوع الشمس ولم يقفوا للناس فناديتهم فلم يلتفتوا إلى ذلك فتوضأت على المحمل ثم نزلت للصلاة على الأرض ووطنت نفسي على المشي إلى وقت نزولهم للضحى وكانوا لا ينزلون إلا قريب وقت الظهر مع علمي بمشقة ذلك علي وأني لا قدرة لي عليه، فلما صليت وقضيت صلاتي نظرت إلى رفقتي فإذا هم وقوف وقد كانوا لو سئلوا ذلك لم يفعلوه فسألتهم عن سبب وقوفهم؟ فقالوا: لما نزلت تعرقلت مقاود الجمال بعضها في بعض فنحن في تخليصها إلى الآن. قال: فجئت وركبت وحمدت الله عز وجل، وعلمت أنه ما قدَّم أحد حق الله تعالى على هوى نفسه وراحتها إلا ورأى سعادة الدنيا والآخرة، ولا عَكَسَ أحد ذلك فقدم حظ نفسه على حق ربه إلا ورأى الشقاوة في الدنيا والآخرة، واستشهد بقول القائل:
والله ما جئتكم زائرا إ***لا وجدت الأرض تطوى لي
ولا ثنيت العزم عن بابكم*** إلا تعثرتُ بأذيالي