ومن أعظم أنواع بر الحج كثرة ذكر الله تعالى فيه، وقد أمر الله تعالى بكثرة ذكره في إقامة مناسك الحج مرة بعد أخرى، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: ((أي الحاج أفضل؟ قال: أكثرهم لله ذكرا)) خرجه الإمام أحمد، وروي مرسلا من وجوه متعددة وخصوصا كثرة الذكر في حال الإحرام بالتلبية والتكبير، وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أفضل الحج العج والثج)).
وفي حديث جبير بن مطعم المرفوع: ((عجوا التكبير عجا وثجوا الإبل ثجا)). فالعج رفع الصوت في التكبير والتلبية، والثج إراقة دماء الهدايا والنسك، والهدي من أفضل الأعمال قال الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} الآية، الحج: 36 ، وقال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}، الحج: 32 وأهدى النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مائة بدنة، وكان يبعث بالهدي إلى منى فتنحر عنه وهو مقيم بالمدينة.
*********************
كمال الحج المبرور في: اجتناب الإثم
*********************
الأمر الثاني: مما يكمل به بر الحج اجتناب أفعال الإثم فيه من الرفث والفسوق والمعاصي قال الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} البقرة: 197.
وفي الحديث الصحيح: ((مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)).
وقد سبق حديث: ((من لم يكن له ورع يحجزه عن معاصي الله فليس لله حاجة في حجه)). فما تزود حاج ولا غيره أفضل من زاد التقوى، ولا دعي للحاج عند توديعه بأفضل من التقوى، وقد روي ((أن النبي صلى الله عليه وسلم: ودع غلاما للحج فقال له: زودك الله التقوى)). قال بعض السلف لمن ودعه: اتق الله، فمن اتقى الله فلا وحشة عليه. وقال آخر: لمن ودعه للحج أوصيك بما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم معاذا حين ودعه: ((تق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
وهذه وصية جامعة لخصال البر كلها، ولأبي الدرداء رضي الله عنه:
يريد المرء أن يؤتى مناه***ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي ***وتقوى الله أفضل ما استفادا
ومن أعظم ما يجب على الحاج اتقاؤه من الحرام أن يطيِّب نفقته في الحج وأن لا يجعلها من كسب حرام، وقد خرج الطبراني وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: ((إذا خرج الرجل حاجا بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج الرجل بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام ونفقتك حرام وحجك غير مبرور)).
مات رجل في طريق مكة فحفروا له فدفنوه ونسوا الفأس في لحده فكشفوا عنه التراب ليأخذوا الفأس، فإذا رأسه وعنقه قد جمعا في حلقة الفأس فردوا عليه التراب ورجعوا إلى أهله فسألوهم عنه فقالوا: صحب رجلا فأخذ ماله فكان منه يحج ويغزو.
إذا حججت بمال أصله سحت***فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كل طيـبة***ما كل من حـج بيت الله مبـرور
ومما يجب اجتنابه على الحاج وبه يتم بر حجه أن لا يقصد بحجه رياء ولا سمعة ولا مباهاة ولا فخرا ولا خيلاء ولا يقصد به إلا وجه الله ورضوانه، ويتواضع في حجه ويستكين ويخشع لربه. روي عن أنس رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم حج على رحل رث وقطيفة ما تساوي أربعة دراهم وقال: اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها ولا سمعة)).
وقال عطاء: ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بمنى غداة عرفة ثم غدا إلى عرفات وتحته قطيفة اشتريت له بأربعة دراهم وهو يقول: اللهم اجعلها حجة مبرورة متقبلة لا رياء فيها ولا سمعة)).
وقال عبد الله بن الحارث: ((ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم رحلا فاهتز به فتواضع لله عز وجل وقال: لبيك لا عيش إلا عيش الآخرة)).
قال رجل لابن عمر: ما أكثر الحاج. فقال ابن عمر: ما أقلهم. ثم رأى رجلا على بعير على رحل رث خطامه حبل فقال: لعل هذا. وقال شريح: الحاج قليل والركبان كثير، ما أكثر من يعمل الخير ولكن ما أقل الذين يريدون وجهه.
خليليَّ قُطَّاعُ الفيافي إلى الحمى***كثير وأما الواصلون قليل
وجوه عليها للقبول علامة***وليس على كل الوجوه قبول
كان بعض المتقدمين يحج ماشيا على قدميه كل عام، فكان ليلة نائما على فراشه فطلبت منه أمه شربة ماء فصعب على نفسه القيام من فراشه ليسقي أمه الماء فتذكر حجه ماشيا كل عام وأنه لا يشق عليه، فحاسب نفسه فرأى أنه لا يهونه عليه إلا رؤية الناس له ومدحهم إياه فعلم أنه كان مدخولا.
قال بعض التابعين: رب محرم يقول: لبيك اللهم لبيك. فيقول الله له: لا لبيك ولا سعديك هذا مردود عليك. قيل له: لِمَ؟ قال: لعله اشترى ناقة بخمسمائة درهم ورحلا بمائتي درهم ومفرشا بكذا وكذا ثم ركب ناقته ورجَّل رأسه ونظر في عطفيه فذلك الذي يرد عليه.
ومن هنا استحب للحاج أن يكون شَعِثا أغبر. وفي حديث المباهاة يوم عرفة أن الله تعالى يقول لملائكته: ((انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ضاحين، اشهدوا أني قد غفرت لهم)).
قال عمر يوما وهو بطريق مكة: تشعثون وتغبرون وتتفلون وتضحَوْن لا تريدون بذلك شيئا من عرض الدنيا ما نعلم سفرا خيرا من هذا. يعني الحج. وعنه قال: إنما الحاج الشعث التَّفِل. وقال ابن عمر لرجل رآه: قد استظل في إحرامه اضْحَ لمن أحرمت له. أي ابرز للضحى وهو حر الشمس.
أتاك الوافدون إليك شعثا*** يسوقون المقلدة الصواف
فكم من قاصد للرب رغبا***ورهبا بين منتعل وحاف
سبحان من جعل بيته الحرام مثابة للناس وأمنا يترددون إليه ويرجعون عنه ولا يرون أنهم قضوا منه وطرا لما أضاف الله تعالى ذلك البيت إلى نفسه ونسبه إليه بقوله عز وجل لخليله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} تعلقت قلوب المحبين ببيت محبوبهم، فكلما ذكر لهم ذلك البيت الحرام حنوا، وكلما تذكروا بعدهم عنه أنوا:
لا يذكر الرمل إلا حن مغترب***له بذي الرمل أوطار وأوطان
تهفو إلى البان من قلبي نوازعه***وما بي البان بل مَنْ داره البان