يذكر بعد خروج الحاج في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((جاء الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أحدثكم بما إن أخذتم به لحقتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين)).
وفي المسند وسنن النسائي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ((قلنا يا رسول الله ذهب الأغنياء بالأجر يحجون ولا نحج ويجاهدون ولا نجاهد وبكذا وبكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على شيء إن أخذتم به جئتم من أفضل ما يجيء به أحد منهم: أن تكبروا الله أربعا وثلاثين وتسبحوه ثلاثا وثلاثين وتحمدوه ثلاثا وثلاثين في دبر كل صلاة)).
****************************
المال من الأسباب المعينة على الطاعة والعكس
****************************
المال لمن استعان به على طاعة الله وأنفقه في سبل الخيرات المقربة إلى الله -سبب موصل له إلى الله، وهو لمن أنفقه في معاصي الله واستعان به على نيل أغراضه المحرمة، أو اشتغل به عن طاعة الله سبب قاطع له عن الله كما قال أبو سليمان الداراني: الدنيا حجاب عن الله لأعدائه ومطية موصلة إليه لأوليائه، فسبحان من جعل شيئا واحدا سببا للاتصال به والانقطاع عنه، وقد مدح الله في كتابه القسم الأول وذم القسم الثاني فقال في مدح الأولين: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} البقرة: 274 ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} فاطر: 29، 30. والآيات في المعنى كثيرة جدا، وقال في ذم الآخرين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}المنافقون: 9، 10.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس أحد لا يؤتي زكاة ماله إلا سأل الرجعة عند الموت"، ثم تلا هذه الآية وأخبر عن أهل النار الذين يؤتى أحدهم كتابه بشماله أنه يقول: {[color=blue]مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} الحاقة: 28، 29. والأحاديث في مدح من أنفق ماله في سبيل الطاعات وفي ذم من لم يؤد حق الله منه كثيرة جدا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ))، وقال: ((الأَكْثَرُونَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلا مَنْ قَالَ بالمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا عَنْ يَمِينِهِ وعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ))، وقال: ((إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ، وإن أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ)).
فالمؤمن الذي يأخذ المال من حقه ويضعه في حقه فله أجر ذلك كله، وكلما أنفق منه يبتغي به وجه الله فهو له صدقة يؤجر عليها حتى ما يطعم نفسه فهو له صدقة، وما يطعم ولده فهو له صدقة، وما يطعم أهله فهو له صدقة، وما يطعم خادمه فهو له صدقة، وكان عامة أهل الأموال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا القسم قال أبو سليمان: كان عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف خازنين من خزان الله تعالى في أرضه ينفقان في طاعته، وكانت معاملتهما لله بقلوبهما، ورأس المنفقين أموالهم في سبيل الله من هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه وفيه نزلت هذه الآية: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} الليل: 17-21.
وفي صحيح الحاكم عن ابن الزبير قال: قال أبو قحافة لأبي بكر: أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك إذا فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون دونك. فقال أبو بكر: يا أبت إني إنما أريد ما أريد. قال: وإنما أنزلت هذه الآيات فيه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الليل: 5، إلى آخر السورة.
وروي من وجه آخر عن ابن الزبير وخرجه الإسماعيلي ولفظه: "إن أبا بكر كان يبتاع الضعفة فيعتقهم، فقال له أبو قحافة: يا بني لو ابتعت من يمنع ظهرك فقال: يا أبت مَنْعَ ظهري أريد. ونزلت فيه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} الليل: 17، إلى آخر السورة.
وخرج أبو داود والترمذي من حديث عمر قال: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ووافق ذلك عندي مالا، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما. قال: فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله. وإن أبا بكر أتى بكل ما عنده فقال: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله. فقلت: لا أسابقه إلى شيء أبدا)). وخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر. فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله)). وخرجه الترمذي بدون هذه الزيادة في آخره.
وكان من المنفقين أموالهم في سبيل الله عثمان بن عفان، ففي الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال: ((شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة فقام عثمان فقال: يا رسول الله عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال: يا رسول الله علي مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال: يا رسول الله علي ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. قال فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل على المنبر وهو يقول: ما على عثمان ما فعل بعد هذه، ما على عثمان ما فعل بعد هذه)).
وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه ((أن عثمان جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول: ما ضر عثمان ما عمل بعد هذا اليوم. مرتين)).
وكان منهم أيضا عبد الرحمن بن عوف. وفي مسند الإمام أحمد أنه قدم له عير إلى المدينة فارتجت لها المدينة فسألت عائشة عنها وحدثت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فبلغ عبد الرحمن فجعلها كلها في سبيل الله بأقتابها وأحلاسها، وكانت سبعمائة راحلة. وخرجه ابن سعد من وجه آخر فيه انقطاع، وعنده أنها كانت خمسمائة راحلة. وخرج الترمذي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن عائشة رضي الله عنها ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول -تعني لأزواجه-: إن أمركن لمما يهمني بعدي ولن يصبر عليكن إلا الصابرونن. قال: ثم تقول عائشة لأبي سلمة: سقى الله أباك من سلسبيل الجنة وكان قد وصل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بحديقة بيعت بأربعين ألفا)). وقال: حسن غريب، وخرجه الحاكم وصححه. وخرج الإمام أحمد أوله. وخرج الإمام أحمد أيضا والحاكم من حديث أم بكر بنت المسور بن مخرمة ((أن عبد الرحمن بن عوف باع أرضا له من عثمان بأربعين ألف دينار فقسمها في فقراء بني زهرة وفي المهاجرين وأمهات المؤمنين قال المسور: فأتيت عائشة رضي الله عنها بنصيبها من ذلك فقالت لنا: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحنو عليكن بعدي إلا الصابرون. سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة)).
وخرج الإمام أحمد والحاكم من حديث أم سلمة رضي الله عنها ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه: إن الذي يحنو عليكن بعدي هو الصادق البار، اللهم اسق عبد الرحمن بن عوف من سلسبيل الجنة)). وخرجه ابن سعد وزاد: إن إبراهيم بن سعد قال: حدثني بعض أهلي من ولد عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف باع أمواله من كيدمة، وسهمه من بني النضير بأربعين ألف دينار فقسمها على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وخرج الترمذي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه أن أباه عبد الرحمن بن عوف أوصى بحديقة لأمهات المؤمنين بيعت بأربعمائة ألف. وخرجه الحاكم ولفظه: "بيعت بأربعين ألف دينار".
وأخبار الأجواد المنفقين أموالهم في سبيل الله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يطول ذكرها جدا، وكان الفقراء من الصحابة كلما رأوا أصحاب الأموال منهم ينفقون أموالهم فيما يحبه الله من الحج والاعتمار والجهاد في سبيل الله والعتق والصدقة والبر والصلة وغير ذلك من أنواع البر والطاعات والقربات حزنوا لما فاتهم من مشاركتهم في هذه الفضائل، وقد ذكرهم الله في كتابه بذلك فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} التوبة: 91، 92 : نزلت هذه الآية بسبب قوم من فقراء المسلمين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى غزوة تبوك فطلبوا منه أن يحملهم فقال لهم: ((لا أجد ما أحملكم عليه)) فرجعوا وهم يبكون حزنا على ما فاتهم من الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال بعض العلماء: هذا والله بكاء الرجال بكوا على فقدهم رواحل يتحملون عليها إلى الموت في مواطن تراق فيها الدماء في سبيل الله وتنزع فيها رؤوس الرجال عن كواهلها بالسيوف، فأما من بكى على فقد حظه من الدنيا وشهواته العاجلة فذلك شبيه ببكاء الأطفال والنساء على فقد حظوظهم العاجلة.
سهر العيون لغير وجهك باطل ** وبكاؤهن لغير فقدك ضائع
إنما يحسن البكاء والأسف على فوات الدرجات العلى والنعيم المقيم. قال بعضهم: يرى رجل في الجنة يبكي فيسأل عن حاله فيقول: كانت لي نفس واحدة قتلت في سبيل الله، ووددت أنه كانت لي نفوس كثيرة تقتل كلها في سبيله.
غزا قوم في سبيل الله فلما صافُّوا عدوهم واقتتلوا رأى كل واحد منهم زوجته من الحور قد فتحت بابا من السماء وهي تستدعي صاحبها إليها وتحثه على القتال فقتلوا كلهم إلا واحدا، وكان كلما قتل منهم واحد غلق باب وغابت منه المرأة، فأفلتَ آخرهم فأغلقت تلك المرأة الباب الباقي وقالت: ما فاتك يا شقي؟ فكان يبكي على حاله إلى أن مات، ولكنه أورثه ذلك طول الاجتهاد والحزن والأسف.
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه وإن كان من ليلى على الهجر طاويا