لما سمع الصحابة رضي الله عنهم قول الله عز وجل: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} البقرة: 148.
{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الحديد: 21. فَهِمُوا أن المراد من ذلك أن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة، والمسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية، فكان أحدهم إذا رأى من يعمل عملا يعجز عنه خشي أن يكون صاحب ذلك العمل هو السابق له؛ فيحزن لفوات سبقه فكان تنافسهم في درجات الآخرة واستباقهم إليها كما قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} المطففين: 26. ثم جاء من بعدهم فعكس الأمر فصار تنافسهم في الدنيا الدنية وحظوظها الفانية قال الحسن: "إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة" وقال وهيب بن الورد: "إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل" وقال بعض السلف: "لو أن رجلا سمع بأحدٍ أطوعَ لله منه كان ينبغي له أن يحزنه ذلك". وقال غيره: "لو أن رجلا سمع برجل أطوع لله منه فانصدع قلبه فمات لم يكن ذلك بعجب". قال رجل لمالك بن دينار: رأيت في المنام مناديا ينادي أيها الناس الرحيل الرحيل فما رأيت أحدا يرتحل إلا محمد بن واسع" فصاح مالك وغشي عليه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} الواقعة: 10-12.
قال عمر بن عبد العزيز في حجة حجها عند دفع الناس من عرفة: "ليس السابق اليوم من سبق به بعيره إنما السابق من غفر له، كان رأس السابقين إلى الخيرات من هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه. قال عمر: ما استبقنا إلى شيء من الخير إلا سبقنا أبو بكر وكان سباقا بالخيرات، ثم كان السابق بعده إلى الخيرات عمر، وفي آخر حجة حجها عمر جاء رجل لا يعرف كانوا يرونه من الجن فرثاه بأبيات منها:
فمن يسعَ أو يركب جناحي نعامة***ليدرك ما قدمت بالأمس يُسْبَقُ
صاحب الهمة العالية والنفس الشريفة التواقة لا يرضى بالأشياء الدنية الفانية، وإنما همته المسابقة إلى الدرجات الباقية الزاكية التي لا تفنى، ولا يرجع عن مطلوبه ولو تَلَفَتْ نفسُه في طلبه ومن كان في الله تَلَفُه كان على الله خلفه.
قيل لبعض المجتهدين في الطاعات: لم تعذب هذا الجسد؟ قال: كرامته أريد.
وإذا كانت النفوس كبارا*** تعبت في مرادها الأجسام
قال عمر بن عبد العزيز: إن لي نفسا تواقة ما نالت شيئا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه، وإنها لما نالت هذه المنزلة يعني الخلافة وليس في الدنيا منزلة أعلى منها تاقت إلى ما هو أعلى من الدنيا يعني الآخرة.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم***وتأتي على قدر الكرام المكارم
قيمة كل إنسان ما يطلب، فمن كان يطلب الدنيا فلا أدنى منه، فإن الدنيا دنية وأدنى منها من يطلبها، وهي خسيسة وأخس منها من يخطبها. قال بعضهم: "القلوب جوالة: فقلب يجول حول العرش، وقلب يجول حول الحش، الدنيا كلها حش وكل ما فيها من مطعم ومشرب يؤل إلى الحش وما فيها من أجسام ولباس يصير ترابا كما قيل:
وكل الذي فوق التراب تراب
وقال بعضهم في يوم عيد لإخوانه: هل تنظرون إلا خرقا تبلى أو لحما يأكله الدود غدا، وأما من كان يطلب الآخرة فقدره خطير لأن الآخرة خطيرة شريفة، ومن يطلبها أشرف منها كما قيل:
أثامن بالنفس النفيسة ربها***وليس لها في الخلق كلهم ثمن
بها تدرك الأخرى فإن أنا بعتها***بشيء من الدنيا فذاك هو الغبن
لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها***لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن
وأما من كان يطلب الله فهو أكبر الناس عنده، كما أن مطلوبه أكبر من كل شيء كما قيل:
له همم لا منتهى لكبارها *** وهمته الصغرى أجل من الدهر
قال الشبلي: من ركن إلى الدنيا أحرقته بنارها فصار رمادا تذروه الرياح، ومن ركن إلى الآخرة أحرقته بنورها فصار سبيكة ذهب ينتفع به، ومن ركن إلى الله أحرقه بنور التوحيد فصار جوهرا لا قيمة له.
العالي الهمة يجتهد في نيل مطلوبه، ويبذل وسعه في الوصول إلى رضا محبوبه، فأما خسيس الهمة فاجتهاده في متابعة هواه، ويتكل على مجرد العفو فيفوته إن حصل له العفو منازل السابقين المقربين.
قال بعض السلف: هب أن المسيء عفي عنه أليس قد فاته ثواب المحسنين.
فيا مذنبا يرجو من الله عفوه *** أترضى بسبق المتقين إلى الله
لما تنافس المتنافسون في نيل الدرجات غبط بعضهم بعضا بالأعمال الصالحات قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فهو ينفقه في سبيل الله آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار)) وفي رواية: ((لا تحاسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار يقول: لو أتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه في حقه يقول: لو أتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل)). وهذا الحديث في الصحيحين.
وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مثل هذه الأمة كأربعة نفر: رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا وهو يقول: لو كان لي مثل هذا لعملت فيه مثل الذي يعمل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَهُمَا في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يخبط في ماله ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته الله علما ولا مالا فهو يقول: لو كان لي مال هذا عملت فيه مثل الذي يعمل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهما في الوزر سواء)).
وروى حميد بن زنجويه بإسناده عن زيد بن أسلم قال: "يؤتى يوم القيامة بفقير وغني اصطحبا في الله فيوجد للغني فضل عمل فيما كان يصنع في ماله فيرفع على صاحبه فيقول الفقير: يا رب لم رفعته وإنما اصطحبنا فيك وعملنا لك؟ فيقول الله تعالى: له فضل عمل بما صنع في ماله، فيقول: يا رب لقد علمت لو أعطيتني مالا لصنعت مثل ما صنع. فيقول: صدق فارفعوه إلى منزلة صاحبه. ويؤتى بمريض وصحيح اصطحبا في الله فيرفع الصحيح بفضل عمله فيقول المريض: يا رب لم رفعته علي؟ فيقول: بما كان يعمل في صحته. فيقول: يا رب لقد علمت لو أصححتني لعملت كما عمل. فيقول الله: صدق فارفعوه إلى درجة صاحبه. ويؤتى بحر ومملوك اصطحبا في الله فيقول مثل ذلك، ويؤتى بحسن الخلق وسيء الخلق فيقول: يا رب لم رفعته علي وإنما اصطحبنا فيك وعملنا؟ فيقول: بحسن خلقه فلا يجد له جوابا".
العاقل يغبط من أنفق ماله في سبيل الخيرات ونيل علو الدرجات والجاهل يغبط من أنفق ماله في الشهوات وتوصل به إلى اللذات المحرمات. قال الله تعالى حاكيا عن قارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} القصص: 79، 80 إلى قوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَا} القصص: 83.