فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تأسف أصحابه الفقراء وحزنهم على ما فاتهم من إنفاق إخوانهم الأغنياء أموالهم في سبيل الله تقربا إليه وابتغاء لمرضاته طيَّب قلوبهم، ودلهم على عمل يسير يدركون به من سبقهم ولا يلحقهم معه أحد بعدهم، ويكونون به خيرا ممن هم معه إلا من عمل مثل عملهم: وهو الذِّكْر عقيب الصلوات المفروضات، وقد اختلفت الروايات في أنواعه وعدده، والأخذ بكل ما ورد من ذلك حسن وله فضل عظيم، وفي حديث أبي هريرة هذا أنهم يسبحون ويحمدون ويكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وقد فسره أبو صالح راوية عنه بالجمع وهو أن يقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين مرة فيكون جملة ذلك تسعا وتسعين.
وقد يستشكل على هذا حديث: ((أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: عما يعدل الجهاد؟ فقال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم فلا تفطر وتقوم ولا تفتر)) وهو حديث ثابت صحيح أيضا، فلم يجعل للجهاد عدلا سوى الصيام الدائم والقيام الدائم، وفي هذا الحديث قد جعل الذكر عقيب الصلوات عدلا له، والجمع بين ذلك كله: أن النبي لم يجعل للجهاد في زمانه عملا يعدله بحيث إذا انقضى الجهاد انقضى ذلك العمل واستوى العامل مع المجاهد في الأجر، وإنما جعل الذي يعدل الجهاد الذكر الكثير المستدام في بقية عمر المؤمن من غير قطع له حتى يأتي صاحبه أجله، فإذا استمر على هذا الذكر في أوقاته إلى أن مات عليه عدل ذكره هذا الجهاد، وقد دل على ذلك أيضا ما خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ذكر الله عز وجل)) وخرجه مالك في الموطأ موقوفا.
وخرج الإمام أحمد والترمذي أيضا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي العبادة أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كَثِيرًا. قلت: يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما لكان الذاكرون الله عز وجل أفضل منه درجة)).
وقد روي هذا المعنى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وطائفة من الصحابة موقوفا، وإن الذكر لله أفضل من الصدقة بعدته دراهم ودنانير، ومن النفقة في سبيل الله. وقيل لأبي الدرداء رضي الله عنه: رجل أعتق مائة نسمة؟ قال: إن مائة نسمة من مال رجل كثير، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار، وأن لا يزال لسان أحدكم رطبا من ذكر الله عز وجل. وعنه قال: لأن أقول: لا إله إلا الله والله أكبر مائة مرة أحب إلي من أن أتصدق بمائة دينار. ويروى مرفوعا وموقوفا من غير وجه ((من فاته الليل أن يكابده وبخل بماله أن ينفقه وجبن عن عدوه أن يقاتله فليكثر من سبحان الله وبحمده فإنها أحب إلى الله من جبل ذهب أو فضة ينفقه في سبيل الله عز وجل))
وذكر الله من أفضل أنواع الصدقة. وخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: ((ما صدقة أفضل من ذكر الله عز وجل)). وقد قال طائفة من السلف في قول الله عز وجل: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} الحديد: 18 : إن القرض الحسن قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أنفق عبد نفقة أفضل عند الله عز وجل من قول ليس من القرآن وهو من القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)).
وروى عبد الرزاق في كتابه عن معمر عن قتادة قال: ((قال ناس من فقراء المؤمنين: يا رسول الله ذهب أصحاب الدثور بالأجور يتصدقون ولا نتصدق وينفقون ولا ننفق. فقال: أرأيتم لو أن مال الدنيا وضع بعضه على بعض أكان بالغا السماء؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: أفلا أخبركم بما أصله في الأرض وفرعه في السماء: أن تقولوا في دبر كل صلاة: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله عشر مرات، فإن أصلهن في الأرض وفرعهن في السماء)).