1- أذَّن مؤذن الحج بأمر الله تعالت حكمته وعظمت منَّته، فنادى محمد -صلى الله عليه وسلم- منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا ونصف قرن: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَكُمْ بِحَجِّ هَذَا الْبَيْتِ فَحُجُّوا»، بل إن الحج إلى بيت الله الحرام يوغل في القدم أحقابًا بعيدة في أعماق التاريخ، فمن يوم أن دعا إبراهيم ربه ضارعا: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}، والنَّاس يحجون إلى البيت المقدس الذي جعله الله -سبحانه وتعالى- مثابة للناس وأمنًا.
وأجاب الناس الداعي إلى البيت الحرام وقدَّسوه وجعله العرب في الذروة من تقديسهم في جاهليتهم وإسلامهم فكان منة الله الكبرى عليهم كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}.
2- وإذا كان العرب قد حجوا إلى بيت الله العتيق في جاهليتهم فالإسلام قد شدد في طلبه حتى اعتبره من الجهاد، بل اعتبره أفضل الجهاد؛ فلقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما روت عائشة -رضي الله عنها-: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ»، واعتبره نسك الإسلام الأكبر، فقد جعل الله -سبحانه وتعالى- لكل أمة نسكًا وجعل الحج نسك الإسلام: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}.
ولقد استمر الناس على القيام بحق هذا النسك العظيم ينفِرون إليه خفافًا وثقالا ورجالا وركبانًا تمخر بهم السفن في عباب البحار، ويطوون الأرض طيًّا شوقًا إلى ربهم وتلبية لندائه حتى تعِج بهم الأرض المقدسة وبيت الله والمشعر الحرام.
ولم يعرف التاريخ الإسلامي عهدًا عُطلت فيه تلك الشعيرة المقدسة إلا في عهود هي في التاريخ الإسلامي كالنكت السوداء في الثوب الناصع البياض، وفي هذه العهود يكون الحكم طغيانًا مستنكرًا أو ظلمًا عاديًا أو شهوات مستحكمة، ثم إن الله يديل من هؤلاء الطاغين فيأخذهم أخذ عزيز مقتدر ويأتيهم من حيث لا يشعرون ويكتب ما يبيِّتون فللبيت رب يحميه وللإسلام مَنْ جعله دينه وشرعه وهو المولى العلي القدير.
3- ولماذا قدس الله البيت الحرام، وجعل الحج إليه من شعائره، والإسلام لا يقدس الأماكن ولا الأحجار، بل يجعل العبادة لله وحده الخالق لكل شيء بديع السموات والأرض؟
وإن الجواب عن هذا السؤال هو بيان الحكمة في شريعة الحج؛ لأن المكان كالزمان لا يقدس لذاته ولا يختار لدَوْرَاته، ولكن يقدَّس لما يكون فيه من نسك وعبادة وذكريات، فإذا كان رمضان مباركًا فليس ذاك لأنه دورة فلكية مباركة، بل لأنه قد نزل فيه القرآن وفيه الصوم الذي يذكِّر بهدي القرآن ويصقل النفس لتلقي تعاليمه.
وكذلك ما كان البيت مقدسًا ولا كانت عرفات مقدسة لترابها، وأحجارها، ومَدَرِها؛ إنما كان التقديس لما تحويه من ذكريات هي آيات الله سبحانه في نبوَّاته، فالذي بناه أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام-، وقد أنزل الله -سبحانه وتعالى- عليه الحنيفية السمحة وهي الشريعة الخالدة الجامعة إلى يوم القيامة، ولقد كانت هي الإسلام كما قال سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
فإذا كان ذلك البيت مثابة للناس وأمنًا وحرمًا مقدسًا يأتي إليه الناس من كل فج عميق؛ فذلك لأنه أقدم مكان معروف كان لعبادة الله -سبحانه وتعالى- الخالصة {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} فالحج إليه وقصده هو لرؤية المكان الذي بناه خليل الله بعناية الله وأمره؛ ففيه تذكير للمسلم بأن الإسلام هو شريعة الجميع وهو دعوة النبيين أجمعين؛ لأنه دعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام.