4- ولقد شرَّف الله البيت العتيق تشريفًا ثانيًا فنشأ في رحابه خاتم النبيين محمد -صلى الله عليه وسلم- وفيه كان المشهد الأول للدعوة المحمدية ففي رباع مكة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعيش، وحولها كان يتحنث ويتأمل إرهاصًا للبعث، ثم فيه نزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- الروح الأمين، وفيه صَدَع بأمر ربه وأنذر عشيرته الأقربين، وفيه صابر المشركين وجالد ودعا بالموعظة الحسنة.
فإذا كان المسلمون يحجون إلى حرم الله الآمن فليروا أولا منازل الوحي، ومدارك النبوة والعهد الأول للإسلام فيتذكرون كيف كان صبره عليه السلام في الشديدة وكيف كان دفعه للمكيدة وكيف كان قويًّا في إيمانه وهو الذي لم يكن له ناصر إلا الله بين قوم توافرت لديهم أسباب الغلب المادي.
وفي ذلك عبرة لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فيعرف كيف يكون الاعتزاز بالله عندما تتكاثر الأعداء ويتضافر عليه الأقوياء وتكثر الضراء وتقل السراء وتزلزل القلوب إلا من عصم ربك.
5- وليس الحج فقط لهذه الذكريات المقدسة، ولكن {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} وهذا كما ورد في القرآن الكريم فالحج نسك يشتمل على أمرين:
أحدهما: المنافع التي يجنيها المسلمون منه ويشاهدونها.
والثاني: الذكر لله سبحانه على ما رزقهم.
وإن المتتبع الفاحص الدارس لمناسك الحج في جملتها وتفصيلها يشهد هذه المنافع ويشهد ذلك الذكر المقدس لله سبحانه وتعالى.
إن الحجيج إذ يُحْرِمون فينوون الحج يتجهون إلى الله -سبحانه وتعالى- بنفوسهم وأجسامهم وأحاسيسهم؛ إذ يتجردون من الملابس التي تفرق بين طبقاتهم وجماعاتهم وتختلف باختلاف بيئاتهم وأقاليمهم ويلبسون لباسًا واحدًا من الكِرْباس غير المخيط لا فرق بين غنيهم وفقيرهم ولا بين أسود وأبيض ولا بين شرقي وغربي فتكون تلك الوحدة في اللباس شعار الوحدة في الدين والمساواة أمام رب العالمين: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}.
وإنهم ليجأرون إلى الله بصوت واحد وبكلمة واحدة يفهمون معناها ويدركون مغزاها لا تغني فيها الأعجمية عن العربية وهي: "لبَّيك اللهم لبيك، لا شريك لك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
وفي هذا الدعاء المشترك الذي يكون لله وحده شعار الإسلام والمسلمين؛ لأنهم أمة التوحيد المطلق.
6- وفي ذلك الاجتماع المقدس يلتقي الشرقي والغربي والقاصي والداني، إذ يلتقي المسلمون من كل فج عميق على هدى من الرحمن فيعرف كُلٌّ ما عند الآخرين ويتبادلون الرأي فيما فيه صلاح معاشهم ومعادهم وإعلاء شأنهم ورفع أمرهم.
وإذا كان أهل البلد في أضيق المعاني يجتمعون كل أسبوع يوم الجمعة ويتعرفون أحوالهم ويتبادلون الآراء في أمورهم، فالمسلمون جميعًا مهما تختلف أقاليمهم وتتباين بيئاتهم يجتمعون في صعيد واحد في الحج، المودة الراحمة تربطهم والإيمان يوحدهم وروح القدس يمدهم بعونه ونور الله يضيء لهم، ففي الحج يكون التطبيق العملي لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.