روى الحاكم في "الإكليل" بطريق ابن جريج عن أبي سلمة عن ابن شهاب الزهري ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أمر بالتأريخ فكتب في ربيع الأول)). لكن هذا الخبر معضل سقط من سنده اثنان أو أكثر، ومرسلات الزهري شبه الريح عند كثير من أهل النقد مثل يحيى بن سعيد القطان والإمام الشافعي -رضي الله عنهما- فضلا عن معضلاته.
والذي صح عند الجمهور أنه كان في خلافة عمر –رضي الله عنه-، وقد روى الحاكم عن سعيد بن المسيب أنه قال: "جمع عمر الناس -يعني المهاجرين وغيرهم- فسألهم عن أول يوم يكتب التاريخ، فقال علي -كرم الله وجهه-: من يوم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني إلى المدينة- وترك أرض الشرك، ففعله عمر".
وابن المسيب أعلم التابعين بقضايا عمر حتى إن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يسأله عن قضايا أبيه.
وروى ابن أبي خيثمة في تاريخه من طريق محمد بن سيرين قال: قدم رجل من اليمن، فقال: رأيت باليمن شيئا يسمونه التأريخ يكتبونه عام كذا وبشهر كذا، فقال عمر: هذا حسن فأرخوا، فلما أجمعوا على ذلك، قال قوم: أرخوا للمولد، وقال قائل: للمبعث، وقال قائل: من حين خرج مهاجرًا، وقال قائل: من حين توفي، فقال عمر: أرخوا من خروجه من مكة إلى المدينة، وفي لفظ الحاكم أن عمر قال: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها.
ثم قال: بأي شهر نبدأ؟ فقال قوم: برجب، وقال قائل: برمضان، فقال عثمان -رضي الله عنه-: أرخوا من المحرم، فإنه شهر حرام وهو أول السنة ومنصرف الناس من الحج، قال: وكان ذلك سنة سبع عشرة في ربيع الأول.
فعُلم من هذه الآثار أن الذي أشار بالمحرم عمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم-، وفي رواية عند أحمد أن أول من أرخ يعلى بن أمية فيما كتبه إلى عمر من اليمن فاستحسنه عمر فشرع في التاريخ، لكنْ في سنده انقطاع، ولا مانع من أن يكون ذلك من جملة البواعث على الشورى في التاريخ، كما أن ما كتبه أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- إلى عمر من البصرة من أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ -كما ذكره الحاكم- من جملتها، فعلم أن ذلك لم يقع من عمر كيفما اتفق بل بعد المشاورة مع الصحابة في أمره.
وقد استوفى الحافظ السخاوي في "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التوريخ" ذكر الآثار الواردة في ذلك، ومن جملة ما قال فيه السخاوي: "وقد كانت القضايا التي يمكن أن يؤرخ بها أربع: مولده ومبعثه وهجرته ووفاته، فرجح عندهم جعلها من الهجرة؛ لأن المولد والمبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين سنته، وأما وقت الوفاة فأعرضوا عنه لما يوقع تذكره من الأسف عليه فانحصر في الهجرة، وإنما أخروه من ربيع الأول إلى المحرم؛ لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم؛ إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة وهي مقدمة الهجرة فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هو هلال المحرم، فناسب أن يجعل مبتدأه".
هذا ما يقوله الحافظ السخاوي -رحمه الله- في تأريخ الهجرة.
والواقع أن يوم الهجرة هو اليوم الفاصل بين الحق والباطل، وقد صبر المصطفى -صلوات الله وسلامه عليه- نحو ثلاث عشرة سنة، يَلقَى من قومه كل أذى وعنت وهو يعاملهم بكل لطف وبكل حكمة؛ لينتشلهم من الجاهلية الجهلاء إلى التوحيد، وليرفعهم من الوثنية إلى مستوى السعداء في النشأتين، وهم لا يزدادون إلا عتوًّا وإيذاء على أمل أن يصرفوه عن الدعوة إلى الإسلام.
وبعد أن دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالحكمة والموعظة الحسنة إلى التوحيد ونبذ الشرك طول هذه المدة وأبان الحجة وقطع كل عذر بدون أن يزدادوا إلا طغيانا وكفرًا أذن الله سبحانه له في الهجرة وإعداد العدة للدفاع عن الحق بالقوة، فهاجر إلى المدينة ومعه الصديق الأكبر -رضي الله عنه- ولم يجد الخوفُ سبيلا إلى قلبه الكريم في وقت من الأوقات وهو الذي يقول لصاحبه في الغار: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] وهو الذي كان أبطالُ الصحابة -رضي الله عنهم- يحتمون بحماه حينما حمي الوطيس في بدر وغيره، فكيف يخاف مثله على نفسه وقد قال الله سبحانه له: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]؟ أم كيف يخاف على القرآن الكريم وقد طمأنه الله عليه حيث قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]؟
وفي هجرته -عليه السلام- ومثابرة الصحابة -رضي الله عنهم- لملاحقته ومناصرته بكل ما لهم من حَوْلٍ وطَوْلٍ إلى أن شادوا صرح هذا الدين ورفعوا أعلامه في جميع البقاع والأصقاع أكبر عظة نتعظ بها، وأعظم عبرة نعتبر بها، وبها يعلم كيف يكون النهوض بالحق وكيف يكون الصلاح والإصلاح.
والهجرة النبوية تجمع جميع معاني التضحية في سبيل الحق فذكراها تنمي في النفوس الشعور الحي الحافز لها إلى استسهال القيام بصنوف التضحية في سبيل الإسلام والاستمساك بتعاليم الإسلام والاعتزاز بعز الإسلام، وتذكي نار الحماس في الصدور ضد كل من يحاول التلاعب بتعاليم الإسلام وتقاليد الإسلام، وتغرس في القلوب الإباء والشمم وعلو الهمم والترفع عن الخنوع لسماسرة المروق ودعاة الفسوق وأعوان الشيطان وكل منافق عليم اللسان {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30].
ولذلك ترى المسلمين يهتمون بذكرى الهجرة النبوية حكومةً وشعبًا، يزدادون اهتماما بها على مر السنين، وما ذلك كله إلا لأجل استنهاض الهمم وتذكير الأمة بواجبهم نحو أنفسهم ونحو بيوتهم ونحو إخوانهم؛ لينهضوا جميعا لتقويم الأود، وإصلاح الفساد ورأب الصدع بما يرضي الله ورسوله وجماعة المسلمين. وفي ذلك استعادة مجد الإسلام والمسلمين، وقمع عبدة الطواغيت من المنافقين، وصون الإسلام من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ...
فندعو الله سبحانه أن يجعل هذا العام الجديد عام خير للإسلام، وعام تعزيز لتعاليم الإسلام، وعام هناءة وسعادة لجميع المسلمين. اللهم غبطا لا هبطا.
===============================================
الموضوع: ذكرى الهجرة النبوية. بقلم العلامة الشيخ/ محمد زاهد الكوثري -رضي الله عنه-
مصدرها: (من كتاب مقالات الكوثري)