كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد عمد -بعد أن يئس من قومه- أن يعرض نفسه على القبائل التي كانت تأتي إلى مكة للحج أيام الموسم، فكانوا لا يأبهون لدعوته، فاتفق أن قابل فيمن قابلهم رجالا من الأوس والخزرج سكان المدينة، فاستحسنوا دعوته ووعدوه بعرض أمره على قومهم، فحضر خصيصًا لهذه الدعوة في العالم التالي نحو سبعين رجلا منهم، فاجتمعوا في جنح الظلام في شِعب من شعاب مكة، وقبلوا أن يدخلوا في الإسلام وأن يدافعوا عنه ولو أداهم ذلك إلى مكافحة العالم أجمع وجر ذلك إلى فنائهم جميعًا، ثم قالوا: وما لنا على هذا كله؟ فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: لكم الجنة، قالوا رضينا. وانصرفوا على أن يهاجر إليهم هو ومن بقي بمكة معه من أصحابه، وأن يستدعي من ذهب إلى الحبشة منهم ليوافوا إخوانهم بالمدينة، ثم انفضوا عن ذلك.
هنا أربع آيات من أكبر ما استجلاه للناس من آيات الله في خلقه:
أولها: قبول قبيلتين من قبائل العرب اليمانية دعوة يقوم بها رجل من قبيلة عدنانية، على ما كان بين هاتين الفئتين من التنافس والتنافر في تاريخهما كله، ومعنى قبولهما دعوتَه خضوعُهما لسلطانه، وهذا ما كان ليحدث بين قبيلتين تَمُتّ إحداهما للأخرى بصلة القرابة، فكيف به بين فريقين متنافسين؟!
ثانيها: اضطلاع طائفة من الناس لا يزيد عدد آحادها على بضعة آلاف بعبء خطير يعرِّضها لمعاداة جميع قبائل العرب، بل شعوب الأرض كافة.
ثالثها: اطمئنان هذه الطائفة إلى الإسلام إلى حدِّ معاداة العالم كله في سبيله، ولم تمضِ عليهم فيه حقبةٌ من الدهر تكفي لأن تطبع نفسياتهم بطابعه وتحبب إليهم بذل أرواحهم في نصرته، هذه طفرة لم يُشاهَد لها مثيل في تاريخ النفسية الإنسانية.
رابعها: رضاء هذه الطائفة بالجنة جزاءً على هذه التضحية، فلا الملك ولا سلطانه ولا الدنيا ولا ملذاتها كانت لديهم شيئًا يمكن أن يعوقهم من إجابتهم دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
لا مشاحة في أن هذه آياتٌ يجب أن يراها الناس ويتأملوا فيها، فإنها من أدل الدلائل على التأييد الإلهي لرسوله، ومن أقوى الشواهد على أن النبوة أمرٌ تخرق له سنن الكون، وتخضع له قواه ونواميسه.