إن شئت أن تشهد آية هي أكبر وأجل آيات الله في عباده، فاشهد أن قام رجل في جماعة أُمِّيَّة، في أحطِّ دركات الجاهلية، يدعوها لأن تجتمع على دين لا عهد لها بمثله، يخلعها عن أكثر عاداتها، ويمتلخها عن أثبت موروثاتها، ويقيمها على نهج جديد لم تعهده في جميع أدوار تاريخها، فينجح في ذلك نجاحًا لم يقدر مثله لمصلح كان قبله أو جاء بعده.
تقول دائرة معارف لاروس في عرض كلامها عن الإصلاحات الاجتماعية: "إن المبادئ الجديدة والأصول الطريفة لا يمكن أن تسري في نفسية أمة من الأمم بمجرد بثها فيها، ولكن لا بدَّ من مرور أجيال متعاقبة عليها قبل أن ترسخ في نفسيتها وتصبح حالا لها، وتصدر أعمالها عنها".
نقول: هذا ما قرره العلم، ودلَّت عليه التجارب الإصلاحية في الأمم، ولكن الدعوة الإسلامية -على سمو أصولها عن كل الأصول المعروفة إلى اليوم- قد قبلتها الطائفة التي انتدبت لحمايتها، وقامت على سنتها طفرة، فتأدت بها إلى السيادة على الأرض، وهذا وحده من أكبر المعجزات في نظر العلم الاجتماعي؛ لأنه ينقض أكبرَ ناموس فيه وهو ناموس التطورات التدريجية.
وقد أشار الكتاب نفسه إلى جلالة هذا الأمر، فأضافه إلى محض قدرة العزيز العليم إكبارًا لشأنه، وإعظامًا لخطره، فقال تعالى: { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103]، وقال تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 64].
إننا نذكر كل هذه الحوادث الكِبَار كلما عنت فرصة لذكرها؛ لأن الأمر أكبرُ من أن تكفي فيه البحوث المستفيضة والتحليلات الدقيقة، فغرابته وإعجازه يتجددان بزيادة مادة العلم وتوالي العبر العالية.
وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
===============================================
الموضوع: ذكرى الهجرة النبوية. للأستاذ/ محمد فريد وجدي. إعداد وتقديم/ عبد الفتاح حسين الزيات
مصدرها: مجلة الأزهر: الجزء الأول - السنة الثالثة والستون المحرم 1411هـ - أغسطس 1990م