وغنيت الهجرة بكثير من صور البطولة التي دلت على فدائية واستبسال، سواء في ذلك النساء والرجال، وحسبنا في ذلك ما يقصه علينا ابن هشام في هجرة أبي سلمة وأسرته رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: حدثني أبي إسحاق بن يسار عن سلمة بن عبد الله بن أبي سلمة عن جدته أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقود بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أريت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه.
وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة قالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده.
وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة.
قالت: ففرق الله بيني وبين زوجي وبين ابني. فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريبا منها، حتى مر بي رجل من بني عمر أحد بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة ألا تخرجون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها.
فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت، ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني.
قالت: فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله. فقلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة أخا بني عبد الدار، فقال: إلى أين يا بنت أبي أمية؟
فقلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أو ما معك أحد؟ قلت: لا والله إلا الله وبني هذا.
قال: والله ما لك من مترك.
فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي. فو الله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه. كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى إلى الشجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله، ثم استأخر عني فقال: اركبي، فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقاد بي حتى ينزل بي.
فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة.
فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة نازلا بها فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعا إلى مكة.
قال ابن إسحاق. فكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة وما رأيت صاحبا قط أكرم من عثمان بن طلحة.
هذا ولم يكن عثمان بن طلحة في ذلك الوقت قد أسلم، ولكن الله سخره ليصحب هذه المسلمة البارة المهاجرة وحدها في رحلتها المخوفة تلك.
لقد أيد الله أهل دينه برجل لم يكن قد دان بعد بهذا الدين، وفي ذلك يصدق قول النبي صلى الله عليه وسلم ((إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)) رواه عمرو بن النعمان ورجاله ثقات –من كتاب الجامع الأزهر في حديث النبي الأنور للحافظ المناوي- الجزء الأول.
وقد أسلم عثمان بن طلحة في هدنة الحديبية ومعه خالد بن الوليد وعمرو بن العاص الذي التقى معهما عند عودته من الحبشة، فاصطحبوا حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم: ((ألقت إليكم مكة أفلاذ أكبادها)).
ثم أقام عثمان بالمدينة وعاد مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام الفتح ودفع إليه مفتاح الكعبة وهو يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}. [النساء: 58].
فانظر إلى ذلك الإيمان العميق والإصرار العجيب الذي أصرت عليه أم سلمة، فلم يستطع الأهل على الرغم من جبروتهم وقسوتهم وحيلولتهم بينها وبين زوجها أن يصدوها عن دينها وعن التطلع إلى الهجرة التي أصبحت هدف كل مسلم وأمل كل مؤمن. فقد أصبحت مكة ليست بدار مقام للمسلمين بعد أن أذن الله لهم في الهجرة، وبعد أن فرغت من المسلمين ولم يبق منهم فيها إلا المستضعفون أو المغموزون في دينهم والذين أصبحوا أهلا لأن يحق فيهم قوله تعالى في سورة النساء: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97].
لقد كان إيمان أم سلمة مثلا يقتدى به ويستوجب على كل من يحمل شرف الانتماء إلى هذا الدين ويحمل اسمه أن يأخذ منه زادا يتعلم منه كيف الجهاد والصبر والتضحية والفداء.
وعبرة أخرى نخرج بها من هجرة أم سلمة رضي الله عنها، هي أن المهاجرين كانوا يخرجون خفية خشية أن يحال بينهم وبين الهجرة، فقد كان المشركون يترصدون الطريق عليهم حتى لا ينطلقوا إلى جوار آمن يلتقطون فيه أنفاسهم ثم يعودون إليهم أقوياء محاربين، ولكن أم سلمة جاهرت بهجرتها وخرجت على أسماع قومها وأبصارهم، فقد كان لإصرارها العظيم على موقفها أثر كبير في أن ترقق حولها قلوب بعض أهلها فسمحوا لها بالهجرة.