وهناك صورة مثلى في الهجرة نلمسها أيضا في الفدائي العظيم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، الذي نام في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة هجرته وهو يعلم أن العدو محدق بالدار يتحين الفرصة لاقتحامها.
لقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينام في فراشه ويتسجى ببرده الأخضر وأن يتأخر بعده ثلاثا حتى يؤدي الأمانات إلى أهلها.
وكان المشركون ينظرون من خصاص الباب فيرون عليا نائما ويظنون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن النبي كان قد خرج من جهة أخرى وهو يتلو قوله تعالى: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}. [يس: 9].
وحين أصبح المشركون رأوا عليا في الدار فقالوا: لو خرج محمد لخرج بعلي معه، فحبسهم الله بذلك عن طلب النبي حين رأوا عليا.
وكان هذا تدبيرا حكيما نتعلم منه حسن التخطيط والتدبير وبعد النظر وإعداد العدة للأمور قبل تنفيذها.
وتهيأ علي للهجرة بعد أن أدى الأمانات التي كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابها، وصحبه في هجرته أهل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يمشي بالليل ويكمن بالنهار وهو راجل على قدميه حتى قدم المدينة.
فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قدومه قال: ادعوا لي عليا. قيل يا رسول الله لا يقدر أن يمشي، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه اعتنقه وبكى رحمة لما بقدميه من الورم وكانتا تقطران دما. فتفل النبي صلى الله عليه وسلم في يديه ومسح بهما رجليه ودعا له بالعافية فلم يشتكهما حتى استشهد رضي الله عنه. حدَّث بذلك ابن الأثير في كتابه القيم أُسْدُ الغابة.
لله ما أروع هؤلاء الأبطال الذين قدموا لنا هذا الدين سائغا رائعا جادوا في تقديمه لنا بأرواحهم وأنفسهم وأموالهم. وتلقيناه نحن منهم بدون تعب منا ومع ذلك فرطنا فيه وضيعناه.
لا يستطيع الواحد منا أن يقوم بأدنى ما كانت تقوم به واحدة من المسلمات الأوليات المستبسلات فضلا عن الرجال. ومع ذلك فإن الغرور يأخذ منا كل مأخذ، ويتشدق المتشدقون منا بأننا مثل من تقدموا أو بإمكاننا أن نكون مثلهم.
كلا لسنا مثلهم فإننا لا نملك أسلحة الجهاد التي جاهد بها هؤلاء الأبطال وفي مقدمتها العزم الأكيد واليقين الصادق والإيمان العميق والأفق الواسع والمحبة العميقة للمسلمين والأخوة الرحبة التي وسعتهم جميعا لا فرق بين أبيض وأسود وعربي وعجمي، والروح الفدائية والتضحية بالمال والنفيس وبذل النفس رخيصة في ذات الله والحب الخالص لوجه الله والتغاضي عن الهفوات والتعاون في سبيل الله.
أقولها صادقًا .. يوم نملك هذا السلاح نكون قد وضعنا أقدامنا على طريق هؤلاء وسوف نمضي قدما إلى الأمام ليصبح المسلمون كثرة قوية لا كثرة مغلوبة مخذولة يقتل بعضها بعضا ويخذل بعضها بعضا ويكفر بعضها بعضا، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .. ومع ذلك لن نفقد الأمل فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.