ولم يجهر أحد بهجرته من رجال المسلمين –فيما يحدث الرواة- خلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جاء في أسد الغابة عن علي بن أبي طالب: ما علمت أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه وانتضى في يده أسهما واختصر عنزته -العَنَزَة نوع من السلاح، واختصرها أمسكها بيده- ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعا متمكنا، ثم أتى المقام فصلى متمكنا، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، وقال لهم: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمه ويوتم ولده ويرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي. قال علي: فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين علمهم وأرشدهم ومضى لوجهه.
هذه صورة تدلنا على الشجاعة والإقدام وهو جدير بتلقيب النبي صلى الله عليه وسلم إياه بالفاروق لأنه فرق بين الحق والباطل، لقد أبت عليه غيرته على دينه وكرامة دينه عليه أن يمضي خفية كما مضى غيره، ولكنه أراد أن يلقن قريشا درسا بأن الهجرة لم تكن بسبب الجبن أو الخوف، ولكنها مرحلة من مراحل الإسلام وخطوة كبرى نحو المستقبل المشرق لهذا الدين الجديد.
إننا نستطيع أن نأخذ من هذه الصورة لأنفسنا اليوم –لو أردنا وصح لنا العزم- كيف تكون الثقة بالله والتسلح باليقين وأن الله ناصر وليه وخاذل عدوه، فإن قريشا على عنجهيتها وبأسها وجبروتها لم تستطع أن تقف في وجه هذا الشجاع الواثق بربه المتسلح بإيمانه المصر على موقفه.