يقول الجاحظ : و ذكر الله تعالى حال قريش في بلاغة المنطق و رجاحة الأحلام ، و صحة العقول .
و ذكر العرب وما فيها من الدهاء و النكراء (1) و المكر ، و من بلاغة الألسنة و اللدد عند الخصامة فقال :
( فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد ) (2)
ثم ذكر خلابة ألسنتهم و استمالتهم الأسمتع بحسن منطقهم فقال :
( و إن يقولوا تسمع لقولهم ) (3) ثم قال :
( و من الناس من يعجبك قولهم في الحياة الدنيا ) البقرة /204 مع قوله
( و إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل (4) ) البقرة /205
و قال جرجى زيدان في تاريخ آداب اللغة العربية:
" و قد يتبادر إلى الذهن أن أولئك البدو كانوا أهل جهالة و همجية لبعدهم عن المدن ، و انقطاعهم للغزو و الحرب ، و لكن يظهر مما وصل إلينا أنهم كانوا كبار العقول ، أهل ذكاء ، و نباهة و اختبار و حنكة ، و أكثر معارفهم من ثمار قرائحهم ، و هي تدل على صفاء أذهانهم و صدق نظرهم في أحوال الإنسان مما لا يقل عن نظر أعظم الفلاسفة : فإن قول زهير بن أبي سلمى في معلقته : " رأيت المنايا خبط عشواء " إلى قوله :
" و إن خالها تخفى على الناس تعلم (5) " لا يقل شيئا عن أحكام أكابر الفلاسفة "
جزء 1 ص 29.
و يقول فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر الأسبق :
" في الشعر الجاهلي معان سامية و حكمة صادقة ، و من يقرأه خالي الذهن من كل ما قيل فيه يقض العجب من ذكاء منشئيه و سعة خيالهم ، و إفضائهم النظر في تأليف المعاني و التصرف في فنون الكلام "
و كما اعتمد الجاحظ على القرآن فيما ذكرناه له من رأي سابق – فإن الدكتور (طه حسين) يرى أن القرآن أصدق مرآة للحياة الجاهلية .
و هذه القضية – كما يقول الدكتور (طه حسين) غريبة حين تسمعها ، و لكنها بديهة حين تفكر فيها قليلاً.
فليس من اليسير – أن نفهم أن الناس قد أعجبوا بالقرآن حين تليت عليهم آياته ، إلا أن تكون بينهم و بينه صلة : هي هذه الصلة التي بين الأثر الفني البديع و بين الذين يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون إليه.
و ليس من اليسير – أن نفهم أن العرب قد قاوموا القرآن و ناهضوه و جادلوا النبي فيه إلا أن يكونوا قد فهموه ، و وقفوا على أسراره و دقائقه.
_________________
(1) النكراء : الدهاء و الفطنة .
(2) سورة الأحزاب آية : 19 .
(3) سورة المنافقون آية : 4 .
(4) البيات و التبيين ج 1 .
(5) نذكر هنا الأبيات التي أشار إليها الكاتب نقلاً عن كتاب المعلقات ليرى القارئ بنفه مبلغ ما وصل إليه زهير من عمق .
سئمـت تكـاليف الحيـاة ، و من يعـش ** ثمـانين حـولاً – لا أبالك –يسـأم
و أعلـم مـا في اليـوم و الأمـس قـبله ** و لـكني مـن علـم ما في غد عـم
رأيت المنـايا خبط عشـواء : من تصـب ** تمثـه ومـن تخطـئ يعمـر فيهـرم
و مـن لـم يصـانع في أمـور كثيــرة ** يضـرس بـأنيـاب ويوطـأ بمنسـم
و مـن يجعـل المعـروف من دون عرضه ** يفـره، ومن لا يتـق الشـتم يشـتم
و مـن يك ذا فضـل فيبخــل بفصـله ** علـى قومـه يسـتغن عنهم ويذمـم
و مـن يـوف لا يذمـم و من يهـج قلبه ** إلـىمطـمئـن البـر لا يتجمـجم
و مـن هـاب أسبــاب المنــايا ينـله ** و إن يـرق أسبـاب السمـاءبسلم
و مـن يجعـل المعـروف فـي غير أهلـه ** يـكن حمـده ذمـاً عليـه و ينـدم
و مـن يعـص أطـراف الزجــاج فإنه ** يطيـع العـوالى ركبت كـل لهـذم
و مـن لـم يذد عـن حوضـه بسـلاحه ** يهـدم ،ومـن لا يظلم النـاس يظلم
و مـن يغتـرب يحسـب عـدوا صديـقه ** و مـن لا يكـرم نفسـه لا يكـرم
و مهـما تـكن عنـد امـرئ من خليـقة ** و إن خـالها تخفـى عن النـاس تعلم