و في القرآن رد على الوثنيين فيما كانوا يعتقدون من الوثنية.
و فيه رد عل اليهود.
و فيه رد على النصارى.
و فيه رد على الصابئة و المجوس.
و هو لا يرد على يهود فلسطين ، و لا على نصارى الروم و مجوس الفرس ، و صائبة الجزيرة وحدهم ، و إنما يرد على فرق من العرب كانت تمثلهم في البلاد العربية نفسها ..
و لكن القرآن لا يمثل الحياة الدينية وحدها ، و إنما يمثل شيئاً آخر غيرها لا نجده في هذا الشعر الجاهلي : يمثل حياة عقول قوية ، يمثل قدرة على الجدال و الخصام أنفق القرآن في جهادها حظاً عظيماً:
أليس القرآن قد وصف أولئك الذين كانوا يجادلون بقوة الجدال ، و القدرة على الخصام ، و الشدة في المحاورة ؟
و فيم كانوا يجادلون و يخاصمون و يحاورون ؟ في الدين و فيما يتصل بالدين من هذه المسائل المعضلة التي ينفق الفلاسفة فيها حياتهم دون أن يوفقوا لحلها : في البعث ، في الخلق ، في إمكان الإتصال بين الله و الناس ، في المعجزة و ما إلى ذلك.
و يمضي الدكتور (طه حسين) في الحديث عن تصوير القرآن للأمة العربية من الناحية الإقتصادية و من ناحية اتصال العرب بغيرهم من الأمم ، و يتمشى مع القرآن في أن العرب لم يكونوا كلهم سنناً واحدة ، بل كان فيهم الأعراب في جفوتهم و غلظتهم و إمعانهم في الكفر و النفاق ، و قلة حظهم من العاطفة الرقيقة التي تحمل على الإيمان و التدين:
(الأعراب أشد كفراً و نفاقاً و أجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله)(1)
و نعود للجاحظ في مقارنة له بين العرب في عصرها الجاهلي و غيرها من الأمم ، و هذه المقارنة : قد اعتقد قوم أنها مقارتة بين العرب كجنس : أي بين العرب في ماضيهم و حاضرهم و مستقبلهم و بين غيرهم ، و لكن ذلك خطأ واضح.
فالجاحظ يقارن بين العرب في طور من أطوارهم هو الطور الجاهلي فحسب و بين غيرهم ، و لذلك لم يتحدث في هذه المقارنة عن الدين ، أو فلسفة الكندي و هو عربي صميم أو فلسفة المعتزلة ، فقد كانوا منها على حظ وافر.
و لم يتحدث عن تشريع أبي حنيفة أو الشافعي ، و قد كان في ذلك – لو أراد – ميدان من أخصب الميادين لتأييد رأيه.
يقول الجاخظ : " إن الهند لهم معان مدونة ، و كتب مجلدة ، لا تضاف إلى رجل معروف ، و لا إلى عالم موصوف ، و إنما هي كتب متوارثة و آداب على وجه الدهر سائرة مذكورة .
و لليونان فلسفة و لكن صاحب المنطق نفسه بكئ اللسان ، و لا موصوف بالبيان.
و في الفرس خطباء إلا أن كل كلام للفرس ، و كل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة ، و عن اجتهاد و خلوة.
و كل شئ للعرب فإنما هو بديهة و ارتجال ، و كأنه إلهام ، و ليست هناك معاناة و لا مكابدة ، و لا إجالة فكر و لا استعانه ، و إنما هو أن يصرف همه إلى الكلام فتأتيه المعاني إرسالا و تنثال عليه الألفاظ انثيالا.
من كل ما سبق نرى أن العرب لم يكونوا – كما يظن الكثير من الناس – أهل جهل مطبق أو ضلالة شاملة ، و إنما كانوا أصحاب شعر و حكمة و دين ، كان فيهم بلاغة المنطق ، و رجاحة الأحلام ، و صحة العقول ، و شعور ديني قوي يضحون في سبيله بأموالهم و أنفسهم.
_________________
(1) سورة التزية آية : 97.