وهذا إرهاص آخر من إرهاصات النبوة، وهي حادثة شق صدر الرسول، وقد وقع ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو في الثالثة من عمره وثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة حيث جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه وشقا بطنه، وحينما علمت حليمة السعدية -وهي أمه في الرضاعة- بهذا النبأ فزعت وخشيت أن يكون قد أصابه مس من الشيطان فأخذته إلى أمه آمنة في مكة وقصت عليها النبأ فطمأنتها آمنة فرجعت به مرة ثانية إلى بادية بني سعد ليعيش فيها إلى الخامسة من عمره ..
وجمهور العلماء والمؤرخين يؤكدون وقوع هذا الحادث العجيب للرسول صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة قبل البعثة في أيام طفولته، ومرة أخرى بعدها, فأما قبل البعثة فليكون ذلك مقدمة تهيئ أذهان الناس إلى التصديق بنبوته حينما يبلغ سن النبوة, وأما بعد البعثة فلكي يكون ذلك معجزة تضاف إلى المعجزات الأخرى التي كرم الله بها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم والتي تؤيد صدقه في دعواه.
وقليل من العلماء هم الذين يقولون: إن حادث شق الصدر يقصد به ما يفهم من قوله تعالى لرسوله: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: 1] فهو بذلك -في زعمهم- لا يكون شقًّا حقيقيًّا للصدر، ولكنه إشارة إلى تطهير الرسول صلى الله عليه وسلم من الشوائب التي توجد في نفوس الناس والسمو به إلى أعلى درجات الطهارات النفسية والخلقية, ولكننا نوقن حق اليقين بأن شق الصدر قد وقع فعلا وأنه حقيقة ثابتة، ولا ينبغي أن يحمل هذا الحادث على أنه من الأساليب المجازية؛ لأن سياق القصة والتعبير بلفظ: «جَاءَنِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، فَأَضْجَعَانِي وَشَقَّا بَطْنِي», وفرار أخيه من الرضاعة فزعًا مما رأى ومجيء السيدة حليمة هي وزوجها بعد أن أخبرهما ولدهما بما أصاب محمدًا ومقابلتهما لمحمد وهو ممتقع لونه وحكاية الرسول للقصة كما حكاها أخوه من الرضاعة في كل ذلك ثابت في الأحاديث الصحيحة، وقد حكاه الرسول في طفولته ثم أعاد حكايته مرة ثانية بعد البعثة حينما كان يسترجع ذكريات الطفولة ويقص على أصحابه أنباءها .. وهذا كله يجعل الحقيقة في هذه القصة واضحة لذي عينين, ويبعد بها عن الأسلوب المجازي بُعْدَ المشرقين ..
--------------------------------------------------------------------
الدكتور محمد الطيب النجار