الضابط الثاني: وهو العلم:
===============
لكي نحكم على شخص بالكفر لأنه عمل عملا، أو قال قولا، أو اعتقد اعتقادًا هو كفر، فلابد قبل الحكم من التأكد من معرفة هذا الشخص بأن ما
يفعله كفر، وأنه مخالف لما يجب فعله من الحق والصواب.
فإذا كان جاهلا بالحق والصواب فلا تشرع عقوبته قبل بيان الحق والصواب بيانًا شافيًا، فالله سبحانه وتعالى لم يشرع العقوبة قبل إقامة الحجة قال عز وجل:(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) [ الإسراء: ١٥ ].
(رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزًا حكيما)النساء: ١٦
(وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا).[ القصص: ٥٩ ] .
(كلما ألقي فيها فوج سألهم خزننها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء).[ الملك: ٨و ٩ ]
(ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى).[ طه: ١٣٤ ]
فهذه النصوص القرآنية تفيد أن الله تعالى لا يؤاخذ عباده إلا بعد قيام الحجة عليهم، وعلمهم بالحق والصواب.
وقد ثبت في نصوص أخرى أن الله لا يؤاخذ الجاهل ولو كان جهله بمسائل في العقيدة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم-قال:"كان رجل يسرف على نفسه،فلما حضره الموت قال لبنيه : إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدرعَلي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحد ًا. فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال : اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم، فقال : ما حملك على ما صنعت؟ قال : يا رب خشيتك . فغفر له" في رواية أخرى :"مخافتك يا رب" (1).
قال ابن تيمية:
"وهذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم, رواه أصحاب الحديث والأسانيد من ، حديث أبي سعيد، حذيفة، وعقبة بن عمرو، وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، يعلم أهل الحديث أا تفيد العلم اليقيني، وإن لم يحصل ذلك لغيرهم ممن لم يشركهم في أسباب العلم.
فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة ابن آدم، بعدما أحرِق وُذري، وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك ..
وهذان أصلان عظيمان:
أحدهما: متعلق بالله تعالى، وهو الإيمان بأن الله على كل شيء قدير.
والثاني: متعلق باليوم الآخر وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت ويجزيه على
أعماله.
ومع هذ ا، فلما كان مؤمنًا بالله في الجملة، ومؤمنًا باليوم الآخر في الجملة،
وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت، وقد عمل صالحًا، وهو خوفه من الله أن
يعاقب على ذنوبه - غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله، واليوم الآخر،والعمل الصالح.(2)
دليل آخر:
=======
قال تعالى:"إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن يترل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين . قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشهدين"<المائدة::112,113>
(فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله عز وجل عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى عليه السلام:"هل يستطيع ربك أن يترل علينا مائدة من السماء", ولم يبطل ذلك إيمانهم، وهذا لا مخلص منه . وإنما كانوا يكفرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة وتبينهم لها)(3)
دليل ثالث
=======
عن الزهري عن سنان عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج مربشجرة للمشركين يقال لها : ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم فقالوا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي صلى الله عليه وسلم:سبحان الله هذا كما قال قوم موسى : اجعل لنا إلهًا، كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم.(4)
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يحكم عليهم بالكفر والردة بقولهم هذا لأنهم جهال. إنما اكتفى صلى الله عليه وسلم بالغضب عليهم، وبين لهم أن هذا أمر عظيم، وعلمهم ما كانوا يجهلونه.
ويقول ابن تيمية:وكذلك بلال رضي الله عنه لما باع الصاعين بالصاع أمره النبي صلى الله عليه وسلم برده، ولم يرتب على ذلك حكم آكل الربا من التفسيق واللعن والتغليظ لعدم علمه بالتحريم.(5).
==================================================
1-البخاري ( ٦٤٨١ ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2-فتاوى ابن تيمية(12\491).
3-الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (3\296).
4-رواه أحمد 5/218, و الترمذي(4/475) عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه.قال الإمام الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
5- الفتاوى(20\253).