هو القصد والاختيار:
=============
أي التحقق من قصد واختيار المنقول عنه الكفر، وهذا الضابط متمم للثالث وهو (العمد)، ولكن هذا الضابط ليس على إطلاقه، إنما فيما يحتمل وجوهًا عدة من التأويل، أما فيما ليس له إلا معنى واحد، ولا يحتمل تأويلا ولا معنى آخر، فإن المسلم محاسب على ظاهر كلامه ولا يقبل منه أنه لم يقصد المعنى الكفري، لأن ذلك يفتح الباب واسعًا أمام الزنادقة ليخربوا الدين ويهدموه من الداخل ولا ينفعه إلا التوبة عن قوله ويحذَّر من معاودة ذلك خشية التلاعب، أما إذا كان الكلام الذي تفوه به المسلم أو الفعل الذي وقع فيه يحتمل وجوهًا من التأويل، فحينئذ لا بد من ملاحظة قصده، ومن التيقن من أنه أراد المعنى الكفري.
وهذا الضابط لاحظه كثير من الأئمة الكبار وركزوا عليه لئلا يتسرع المسلم بتكفير المسلمين وخاصة العوام فيما يتعارفون عليه من عبارات .. وكثير منها يحتمل كثيرًا من الوجوه … فلابد من تتبع تلك الوجوه حتى لا تقع بتكفير مسلم. اللهم إلا إذا صرح هو أنه أراد المعنى الكفري وارتضاه لنفسه فإنه يكفر.
أنقل تأييدًا لهذا الضابط كلامًا لكبار العلماء:
===========================
قال الإمام القاضي عياض - رحمه الله - وهو أحد كبار الأئمة المالكية، من علماء القرن السادس للهجرة في آخر كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه و سلم) حيث عقد فصلا في جملة ألفاظ تقتضي التكفير، وفي ثنايا هذا الفصل خاض في هذا الموضوع ولاحظ عدة ضوابط، ومن جملة ما قاله رحمه الله : (وأما من أضاف إلى الله تعالى ما لا يليق به ليس على طريق السب ولا الردة وقصد الكفر، ولكن ذلك عن طريق التأويل والاجتهاد والخطأ المفضي إلى الهوى والبدع.. فهذا مما اختلف السلف والخلف في تكفير قائله ومعتقده ).
قال الشهاب الخفاجي تعليقًا على كلامه - ج ٤، ص ٤٧٢ ، من شر حه لكتاب الشفا-: (فذهب الأشعري إلى عدم تكفير أهل الهوى والمذاهب المردودة وعلى ذلك أكثر العلماء من الحنفية والشافعية).
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي في كتابه"الفتاوى الكبرى" ج 4, ص 239:"(الذي صرح به أئمتنا أن من تكلم بمحتمل للكفر لا يحكم عليه حتى يستفسر ) أي حتى يسَأل عن قصده، فإن قال : قصدت هذا المعنى وكان المعنى الفلاني صريحًا في الكفر يكفر، أما إن قصد معنى غير كفري فإنه لا يكفر ) وواضح أنه لا يعني كلامه وكلام القاضي عياض ترك التشنيع على هؤلاء."
ولابن حجر أيضًا كلام نقله عنه ملا على القاري في كتابه" شرح المشكاة كما نقله عنه المباركفوري في "شرح سنن الترمذي" ج6, ص 362 قال : (الصواب عند الأكثرين من علماء السلف والخلف أن لا نكفر أهل البدع والأهواء إلا إن أتوا بكفر صريح لا استلزامي، لأن الأصح أن لازم المذهب ليس بمذهب، ومن َثم لا يزال المسلمون يعاملونهم معاملة المسلمين في نكاحهم وإنكاحهم والصلاة على موتاهم ودفنهم في مقابرهم، لأنهم وإن كانوا مخطئين غير معذورين حقت عليهم كلمة الفسق والضلالة، إلا أنهم لا يقصدون . بما قالوه اختيار الكفر>>
وجاء في كتاب"رد المحتار" للعلامة ابن عابدين، علامة الحنفية في القرن الثالث عشر للهجرة ومن أكابر المحققين للمذهب الحنفي : (إذا كان في المسألة وجوه- أو احتمالات - توجب التكفير، فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير تحسينًا للظن بالمسلم ) وقد زاد في البزازية ضابطًا مهمًا : (إلا إذا صرح بإرادة موجب الكفر فلا ينفعه التأو يل حينئذ ) أي لا نؤول كلامه لأنه هو قال : قصدت المعنى الكفري.
وقد ضرب مثلا لذلك فقال : (إذا شتم رجل دين مسلم، فيحتمل أن يكون هذا السب استخفافًا في الدين فيكفر، ويحتمل أن يكون مرا ده أخلاقه الردية ومعاملته القبيحة، لا حقيقة دين الإسلام، فينبغي أن لا يكفر حينئذ كما حرر ذلك بعض الحنفية).
وقال ملا علي القاري وهو من علماء الحنفية في القرن الحادي عشر للهجرة في "شرح الفقه الأكبر" ص 162,: (ذكروا أن المسألة المتعلقة بالكفر إذا كان لها تسعة وتسعون احتمالا للكفر واحتمال واحد في نفيه، فالأولى للمفتي والقاضي أن يعمل بالا حتمال النافي لأن الخطأ في إبقاء ألف كافر أهون من الخطأ في إفناء مسلم واحد )، وذكر أيضًا في الصفحة نفسها : (إذا كان اللفظ محتملا ، فلا يحكم بكونه كفرًا إلا إذا صرح بأنه نوى المعنى الكفري).
وأضرب على ذلك بعض الأمثلة من كتاب"الروضة" للإمام النووي -رحمه الله تعالى - في باب الردة . أريد منها بيان ملاحظة العلماء لقصد المسلم، وهذا تأكيد على هذا الضابط الذي أنا بصدد شرحه . قال في المجلد العاشر وأدخل في آخره حرف « عبد الله » ص ٦٧ : (واختلفوا فيمن نادى رجلا اسمه الكاف، الذي يدخل للتصغير بالعجمية، قيل يكفر، وقيل : إن تعمد التصغير كفر، وإن كان جاهلا لا يدري ما يقول أو لم يكن له قصد لا يكفر).
وكذلك قال الإمام النووي : (لو قيل لمسلم : َقلِّم أظافرك فإنها سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فأجاب : لا أفعل وإن كان سنة، قال النووي : المختار- أي في المذهب -أنه لا يكفر بهذا إلا أن يقصد الاستهزاء)..
والمثال الأخير أنقله من كتاب "شرح الفقه الأكبر" ملا عل ي ،القاري: (من ضحك على وجه الرضا ممن تكلم بالكفر : كفر. وأما إذا ضحك
لا على وجه الرضا، بل بسبب أن الكلام الموجب للكفر عجيب غريب يضحك السامع منه ضرورة فلا يكفر).
فكل هذه الأمثلة تتضافر على ضرورة التأكد من قصد المسلم مما يحتمل وجوهًا متعددة، وضرورة تأويله ولو كان ظاهر كلامه الكفر بشرط أن يكون كلامه يحتمل التأويل ولو وجهًا ضعيفًا من التأويل، وذلك مراعاًة لحرمة المسلم والإبقاء على إسلامه ما أمكن.