العمد:
====
بعد استيفاء شرط العلم، وبيان الحق والصواب للمخالف، والتأكد من وصوله إليه، إن ظل على فعله وقوله أو اعتقاده الذي يجلب الكفر أو اللعن، فلا يجوز الحكم عليه بالكفر إلا بعد استيفاء شرط آخر وهو العمد.
فنرى هل تعمد نصرة القول الباطل، ومخالفة الحق بعد وصوله إليه ووضوحه، أو هو مخطئ متأول قد عرضت له بعض الشبه؟ لابد من توفر شرط العمد، لأن الله تعالى قد رفع الإثم والمؤاخذة عن المخطئ والمتأول.
قال الله تعالى:"وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم" <الأحزاب:5>
وقال الله تعالى:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو اخطأنا" <البقرة: ٢٨٦>
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الله تعالى قال : (قد فعلت) لما دعا النبي صلى الله عليه و سلم والمؤمنون بهذا الدعاء.قال صلى الله عليه و سلم:"إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان" (1)
قال ابن تيمية:"وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية. وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا يكفر ولا بفسق ولا بمعصية" (2)
تلك أدلة رفع الإثم والمؤاخذة عن المخطئ والمتأول.
والآن نعرض بعض الأمثلة التي وقعت ودلت على عدم المؤاخذة بالخطأ والتأويل:
====================================================
يقول ابن تيمية:"والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية، كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث، وكان لذلك ما
يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه، مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد. ثبوته(3)
أو اعتقد أن الله لا يرى لقوله :"لا تدركه الأبصر"<الأنعام : ١٠٣>
ولقوله:"وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورا ء حجاب" <الشورى:51>
كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي صلى الله عليه و سلم وإنما يدلان بطريق العموم.
وكما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يرى، وفسروا قوله:"ولا تزر وازرة وزر أخرى" <الأنعام:164> يدل على ذلك . وأن ذلك يقدم على رواية الراوي لأن السمع يغلط، كما اعتقد ذلك من السلف والخلف(4)
ويقول ابن تيمية أيضًا:"وإذا كان المسلم متأولا في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك". كما قال عمر بن الخطاب مشيرًا لحاطب بن أبي بلتعة : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه و سلم:"إنه شهد بدرًا، وما يدرك أن الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" (5)
وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلا بعدما قال لا إله إلا الله، وعظم النبي صلى الله عليه و سلم ذلك لما أخبروه وقال:"يا أسامة، أقتلته بعدما قال : لا إله إلا الله؟" وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة : تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.(6)
ومع هذا لم يوجب عليه قودًا ولا دية ولا كفارة . لأنه كان متأوًلا، ظن . جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذا(7)
بعد إيضاح أدلة شرط العمد بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية، والنماذج العملية للسلف، والتي تؤكد ضرورة وجود شرط العمد في مجانبة الحق للمؤاخذة. أما الخطأ والتأويل فيرفع المؤاخذة.
وإتمامًا للفائدة نعرض مسألتين هامتين تتعلقان بهذا الموضوع:
الأولى: ما هو حد الخطأ والتأويل الذي يعذر صاحبه؟
الثانية: وهل كل مخطئ في إصابة الحق أو كل متأول معذور؟
لقد أفادت النصوص الشرعية أنه ليس كل مخطئ أو متأول معذورًا بذلك. بل هناك مخطئون ومتأولون معذورون . وهناك مخطئون ومتأولون غير معذورين.
فمثلا: القوم الذين أفتوا الجريح بضرورة غسل جسده كله عندما أجنب، فتسبب ذلك في قتله، هؤلاء القوم لم يعذرهم الرسول صلى الله عليه و سلم لجهلهم ولخوضهم في دين الله بغير علم.
عن عطاء بن أبي رباح، قال : سمعت ابن عباس يخبر أن رجلا أصابه جرح في رأسه، على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فكز، فمات . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال :"قتلوه، قتلهم الله، أو لم يكن شفاء العِي السؤال"(8)
فإن هؤلاء أخطأوا بغير اجتهاد، إذ لم يكونوا من أهل العلم(9)
ويضرب ابن تيمية مثالا آخر يوضح مؤاخذة من لا تأويل له في قول :"فإنه لما شرب الخمر بعض الصحابة واعتقدوا أنها تحل للخاصة تأول قوله : (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ) اتفق الصحابة مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا.(10)
=======================================================
1- جزء من حديث أخرجه ابن ماجه(2043)(2045) والبيهقي وغيرهما عن أبي ذر وعن ابن عباس. قال الإمام النووي في<الأربعين> له: حديث حسن . أ.ه.
2- الفتاوى(3\229).
3- إذ لم يثبت ذلك، بل المشهور الراجح أن الذبيح إسماعيل عليه السلام، ول لسيوطي رحمه الله رسالة سماها القول النجيح في تعيين من هو الذبيح موجودة في فتاويه.
4- الفتاوى(20\32-36).
5-البخاري(4890) والترمذي(3305).
6-مسلم(96\156).
7-الفتاوى(3\20,283\254,263).
8-رواه أبو داود(340) وابن ماجه(572) وأحمد في المسند(3056) عن ابن عباس رضي الله عنه, وأخرجه أبو داود عن جابر قال محققوا المسند: حسن أ.ه.
9-الفتاوى(20\253-254).
10-الفتاوى(12\498-499).