إنتفاء الإكراه
=========
فمن شروط التكفير : الحرية، والاختيار في اقتراف القول أو العمل المكفر، فلا يؤاخذ المكره والمضطر والعاجز، وهذا شرط لابد من توفره، لأن النصوص
والوقائع بينت أن الله تعالى لا يؤاخذ المكره والعاجز عن الاختيار.
قال تعالى:"من كفر بالله من بعد ايمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم"
يقول ابن كثير:"أخبر تعالى عمن يكفر به بعد الإيمان والتبصر وشرح صدره بالكفر واطمأن به أنه قد غضب عليه، لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه،
وأن لهم عذابًا عظيمًا في الدار الآخرة، لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا، ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين
الحق، فطبع على قلوبهم فهم لا يعقلون بها شيئًا ينفعهم، وختم على سمعهم" وأبصارهم فلا ينتفون بها ولا أغنت عنهم شيئًا فهم غافلون عما يراد بهم"لا جرم" لابد ولا عجب أن من هذه صفته"أنهم في الآخرة هم الخاسرون" [النحل: ١٠٩ ] أي الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
وأما قوله:"إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" "النحل: ١٠" فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرهًا لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله.
وقد نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر.
قال ابن جرير : أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي "صلى الله عليه و سلم"
فقال النبي"صلى الله عليه وسلم":"كيف تجد قلبك", قال: مطمئنًا بالإيمان., قال: مطمئنًا بالإيمان.صلى الله عليه و سلم"إن عادوا فعد" (1)
ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته.
ويجوز له أن يأبى كما كان بلال -رضي الله عنه-يأبى عليهم ذلك… والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه، ولو أفضى إلى قتله" (2)
وفي الحديث . قال-صلى الله عليه و سلم-:"إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"(3)
وأنبه هنا إلى أن العلماء اتفقوا على أن الإكراه يرفع الحكم، إذ لابد من توفر الحرية والاختيار، اتفقوا على ذلك في الجملة، وهذا ما نريد إقراره ثم
اختلفوا في حدود الإكراه ومقداره.
وهذه الأمور التفصيلية يرجع فيها إلى كتب الفقه، وتلك الأمور هي خاصة بمن يتصدى للافتاء والقضاء، ولابن تيمية كلام نفيس حول هذا الموضوع يجلى فيه عفو الله عن العاجز، وعدم مؤاخذته له، ويضرب أمثلة على ذلك: "فإن الله تعالى قد أخبر في غير موضع أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها كقوله:" لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" <البقرة: 286>
وقوله تعالى:"والذين امنوا وعملوا الصلحات لا نكلف نفسا إلا وسعها"<الأعراف: 42>.
وأمر بتقواه بقدر الاستطاعة فقال :"فاتقوا الله ما استطعتم"<التغابن :16>
وقد دعاه المؤمنون بقولهم:"ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"<البقرة: 286>
فدلت هذه النصوص على أنه لا يكلف نفسًا ما تعجز عنه، خلافًا للجهمية المجبرة، ودلت على أنه لا يؤاخذ المخطئ والناسي، خلافًا للقدرية والمعتزلة.
وهذا فصل الخطاب في هذا الباب : فالمجتهد المسؤول من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفت وغير ذلك، إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع كان هذا هو
الذي كلفه الله إياه، وهو مطيع لله، مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع، ولا يعاقبه الله البتة خلافًا للجهمية المجبرة.
وهو مصيب، بمعنى أنه مطيع لله، لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه، خلافًا للقدرية والمعتزلة في قولهم : كل من استفرغ وسعه علم الحق، فإن
هذا باطل كما تقدم.
بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب. وكذلك الكفار : من بلغه دعوة النبي صلى الله عليه و سلم في دار الكفر، وعلم أنه رسول الله، فآمن به، وآمن بما أنزل عليه، واتقى الله ما استطاع كما فعل النجاشي وغيره، ولم تمكنه الهجرة إلى دار الإسلام، ولا التزام جميع شرائع الإسلام لكونه
ممنوعًا من الهجرة، وممنوعًا من إظهار دينه، وليس عنده من يعلمه جميع شرائع
الإسلام:
فهذا مؤمن من أهل الجنة. كما كان مؤمن آل فرعون من قوم فرعون. وكما كانت امرأة فرعون. بل وكما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر، فإنهم كانوا كفارًا، ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام، فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه. قال تعالى عن يوسف عليه السلام:"ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا" <غافر:34>
وكذلك النجاشي هو وإن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه في الدخول
في الإسلام، بل إنما دخل معه نفر منهم، ولهذا، لما مات لم يكن هناك أحد يصلي عليه، فصلى عليه النبي-صلى الله عليه و سلم- بالمدينة، خرج بالمسلمين إلى المصلى فصفهم صفوفًا وصلى عليه، وأخبرهم بموته يوم مات.
عن أبي هريرة-رضى الله عنه-:"أن رسول الله-صلى الله عليه و سلم- نعى لهم النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه، وقال: استغفروا لأخيكم"(4) وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك .
فلم يهاجر ولم يجاهد ولا حج البيت. بل قد رو ي أنه لم يصل الصلوات الخمس، ولا يصوم شهر رمضان، ولا
يؤدي الزكاة الشرعية، لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه، وهو لا
يمكنه مخالفتهم.
ونحن نعلم قطعًا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن، والله قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جا ءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل الله
إليه، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه. وهذا مثل الحكم في الزنا للمحصن بحد الرجم، وفي الديات بالعدل،
والتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع، النفس بالنفس، والعين بالعين، وغير
ذلك. والنجاشي ما كان يمكنه أ ن يحكم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على
ذلك، وكثيرًا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيًا بل وإمامًا، وفي نفسه
أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك . بل هناك من يمنعه ذلك، ولا
يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل :
إنه سم على ذلك . فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من
شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها" (5)
====================================================
1-أخرجه الحاكم في المستدرك(2\357)وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. أ.ه.
2-تفسير ابن كثير(2\578)
3-تقدم تخريجه.
4-رواه البخاري ( ٣٨٨٠ ) عن أبي هريرة-رضى الله عنه-.
5-الفتاوى(219\216\19).