ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشد المئزر، واختلفوا في تفسيره، فمنهم من قال: هو كناية عن شدة جده واجتهاده في العبادة، كما يقال: فلان يشد وسطه ويسعى في كذا، وهذا فيه نظر؛ فإنها قالت: جد وشد المئزر، فعطفت شد المئزر على جده، والصحيح أن المراد اعتزاله للنساء، وبذلك فسره السلف والأئمة المتقدمون. منهم: سفيان الثوري، وقد ورد ذلك صريحا من حديث عائشة وأنس وورد تفسيره بأنه لم يأو إلى فراشه حتى ينسلخ رمضان. وفي حديث أنس: وطوى فراشه، واعتزل النساء.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم غالبا يعتكف العشر الأواخر، والمعتكف ممنوع من قربان النساء بالنص والإجماع، وقد قالت طائفة من السلف في تفسير قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} إنه طلب ليلة القدر والمعنى في ذلك: أن الله تعالى لما أباح مباشرة النساء في ليالي الصيام إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر؛ لئلا يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالاستمتاع المباح فيفوتهم طلب ليلة القدر، فأمر مع ذلك بطلب ليلة القدر بالتهجد من الليل خصوصا في الليالي المرجو فيها ليلة القدر، فمن هاهنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصيب من أهله في العشرين من رمضان، ثم يعتزل نساءه، ويتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر. ومنها تأخيره للفطور إلى السحر.
روي عنه من حديث عائشة وأنس أنه صلى الله عليه وسلم ((كان في ليالي العشر يجعل عشاءه سحورا)) ولفظ حديث عائشة: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان رمضان قام ونام، فإذا دخل العشر شد المئزر واجتنب النساء، واغتسل بين الأذانين، وجعل العشاء سحورا)). أخرجه ابن أبي عاصم وإسناده مقارب، وحديث أنس خَرَّجَه الطبراني ولفظه: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان طوى فراشه واعتزل النساء، وجعل عشاءه سحورا))، وفي إسناده حفص بن واقد، قال ابن عدي: هذا الحديث من أنكر ما رأيت له.
وروي أيضا نحوه من حديث جابر خَرَّجَه أبو بكر الخطيب، وفي إسناده من لا يعرف حاله، وفي الصحيحين ما يشهد لهذه الروايات ففيهما عن أبي هريرة قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم، فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله؟ فقال: وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)) فلما أبو أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما، ثم رأوا الهلال فقال: ((لو تأخر لزدتكم)) كالتنكيل لهم حين أبو أن ينتهوا فهذا يدل على أنه واصل بالناس في آخر الشهر، وروى عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة قال: ((ما واصل النبي صلى الله عليه وسلم وصالكم قطُّ غير أنه قد أخر الفطر إلى السحور)). وإسناده لا بأس به، وخرج الإمام أحمد من حديث علي ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل إلى السحر)). وخرجه الطبراني من حديث جابر أيضا، وخرج ابن جرير الطبري من ((حديث أبي هريرة رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل إلى السحر، ففعل ذلك بعض أصحابه فنهاه، فقال: أنت تفعل ذلك؟ فقال: إنكم لستم مثلي، إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني)).
وزعم ابن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يواصل في صيامه إلا إلى السحر خاصة، وأن ذلك يجوز لمن قوي عليه ويكره لغيره، وأنكر أن يكون استدامة الصيام في الليل كله طاعة عند أحد من العلماء، وقال: إنما كان يمسك بعضهم لمعنى آخر غير الصيام؛ إما ليكون أنشط له على العبادة أو إيثارا بطعامه على نفسه أو لخوف مقلق منعه طعامه، أو نحو ذلك. فمقتضى كلامه: أن من واصل ولم يفطر ليكون أنشط له على العبادة من غير أن يعتقد أن إمساك الليل قربة أنه جائز، وإن أمسك تعبدا بالمواصلة فإن كان إلى السحر وقوي عليه لم يكره وإلا كره. ولذلك قال أحمد وإسحاق: لا يكره الوصال إلى السحر، وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر. قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني)) وظاهر هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يواصل الليل كله، وقد يكون صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لأنه رآه أنشط له على الاجتهاد في ليالي العشر، ولم يكن ذلك مضعفا له عن العمل فإن الله كان يطعمه ويسقيه.
واختلف في معنى إطعامه فقيل: إنه كان يؤتى بطعام من الجنة يأكله، وفي هذا نظر؛ فإنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا، وقد أقرهم على قولهم له: إنك تواصل، لكن روى عبد الرزاق في كتابه عن ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، قالوا: فإنك تواصل؟ قال: وما يدريكم لعل ربي يطعمني ويسقيني)) وهذا مرسل. وفي رواية لمسلم من حديث أنس: ((إني أظل يطعمني ربي ويسقيني)). وإنما يقال: ظل يفعل كذا إذا كان نهارا ولو كان أكلا حقيقيا لكان منافيا للصيام. والصحيح أنه إشارة إلى ما كان الله تعالى يفتحه عليه في صيامه وخلوته بربه لمناجاته وذكره، من مواد أنسه، ونفحات قدسه، فكان يرد بذلك على قلبه من المعارف الإلهية والمنح الربانية، ما يغذيه ويغنيه عن الطعام والشراب كما قيل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها** عن الطعام ويلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به** وقت المسير وفي أعقابها حادي
إذا شَكَت من كلال السير أوعدها**رُوح القدوم فتحيا عند ميعادِ
الذكر قوت قلوب العارفين يغنيهم عن الطعام والشراب، كما قيل:
أنت ريي إذا ظمئت إلى الما **ء وقوتي إذا أردت الطعاما
لما جاع المجتهدون شبعوا من طعام المناجاة، فأف لمن باع لذة المناجاة بفضل لقمة.
يا من لحشا المحب بالشوق حشا***ذا سر سراك في الدجا كيف فشا
هذا المولى إلى المماليك مشى***لا كان عيشا أورث القلب غشا
ويتأكد تأخير الفطر في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر، قال زر بن حبيش في ليلة سبع وعشرين: من استطاع منكم أن يؤخر فطره فليفعل، وليفطر على ضَياح لبن. ورواه بعضهم عن زر عن أبي بن كعب مرفوعا، ولا يصح. وضياح اللبن: -وروي: ضيح الضاد المعجمة والياء آخر الحروف- هو اللبن الخاثر الممزوج بالماء.
وروى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن علي قال: إن وافق ليلة القدر وهو يأكل أورثه داء لا يفارقه حتى يموت. وخرجه من طريقه أبو موسى المديني، وكأنه يريد إذا وافق دخولها أكله والله أعلم.