وفي سنن أبي داود بإسناد رجاله كلهم رجال الصحيح عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر: ((ليلة سبع وعشرين)) وخرجه ابن حبان في صحيحه، وصححه ابن عبد البر وله علة، وهي وقفه على معاوية وهو أصح عند الإمام أحمد والدارقطني، وقد اختلف أيضا عليه في لفظه وفي المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه: ((أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: متى ليلة القدر؟ فقال: من يذكر منكم ليلة الصهباوات؟ قال عبد الله: أنا بأبي أنت وأمي، وإن في يدي لتمرات أتسحر بهن مستترا بمؤخرة رحلي من الفجر، وذلك حين طلع القمر)).
وخرجه يعقوب بن شيبة في مسنده وزاد: وذلك ليلة سبع وعشرين. وقال: صالح الإسناد. والصهباوات: موضع بقرب خيبر، وفي المسند أيضا من وجه آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن ليلة القدر في النصف من السبع الأواخر من رمضان)) وإذا حسبنا أول السبع الأواخر ليلة أربع وعشرين كانت ليلة سبع وعشرين نصف السبع؛ لأن قبلها ثلاثَ ليالٍ وبعدها ثلاثَ ليالٍ، ومما يرجح أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين أنها من السبع الأواخر التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتماسها فيها بالاتفاق، وفي دخول الثالثة والعشرين في السبع اختلاف سبق ذكره، ولا خلاف أنها آكد من الخامسة والعشرين، ومما يدل على ذلك أيضا حديث أبي ذر في قيام النبي صلى الله عليه وسلم بهم في أفراد السبع الأواخر، وأنه قام بهم في الثالثة والعشرين إلى ثلث الليل، وفي الخامسة إلى نصف الليل، وفي السابعة إلى آخر الليل حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح، وجمع أهله لَيْلَتَئِذٍ، وجمع الناس. وهذا كله يدل على تأكدها على سائر أفراد السبع والعشر.
ومما يدل على ذلك ما استشهد به ابن عباس بحضرة عمر رضي الله عنه والصحابة معه، واستحسنه عمر رضي الله عنه، وقد روي من وجوه متعددة، فروى عبد الرزاق في كتابه عن معمر عن قتادة وعاصم أنهما سمعا عكرمة يقول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: دعا عمر بن الخطاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ليلة القدر، فأجمعوا أنها في العشر الأواخر. قال ابن عباس: فقلت لعمر رضي الله عنه: إني لأعلم أو إني لأظن أي ليلة هي؟ قال عمر رضي الله عنه: وأي ليلة هي؟ قلت: سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر. فقال عمر رضي الله عنه: ومن أين علمت ذلك؟ قال: فقلت: إن الله خلق سبع سماوات وسبع أرضين وسبعة أيام، وإن الدهر يدور على سبع، وخلق الله الإنسان في سبع، ويأكل من سبع، ويسجد على سبع، والطواف بالبيت سبع، ورمي الجمار سبع، لأشياء ذكرها. فقال عمر رضي الله عنه: لقد فَطِنْتَ لأمر ما فَطِنَّا له. وكان قتادة يزيد على ابن عباس في قوله: يأكل من سبع قال: هو قول الله عز وجل: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} ولكن في هذه الرواية: أنها في سبع تمضي أو تبقى بالترديد في ذلك.
وخرجه ابن شاهين من رواية عبد الواحد بن زياد عن عاصمٍ الأحول: حدثني لاحق بن حميد وعكرمة قالا: قال عمر رضي الله عنه: من يعلم ليلة القدر؟ فذكر الحديث بنحوه، وزاد أن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هي في العشر، في سبع تمضي أو سبع تبقى)) فخالف في إسناده وجعله مرسلا ورفع آخره.
روى ابن عبد البر بإسناد صحيح من طريق سعيد بن جبير قال: كان ناس من المهاجرين وجدوا على عمر في إدنائه ابن عباس، فجمعهم ثم سألهم عن ليلة القدر فأكثروا فيها، فقال بعضهم: كنا نراها في العشر الأوسط، ثم بلغنا أنها في العشر الأواخر، فأكثروا فيها، فقال بعضهم: ليلة إحدى وعشرين، وقال بعضهم: ليلة ثلاث وعشرين، وقال بعضهم: ليلة سبع وعشرين، فقال عمر رضي الله عنه: يا ابن عباس تكلم، فقال: الله أعلم. قال عمر: قد نعلم أن الله يعلم، وإنما نسألك عن علمك، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله وتر يحب الوتر، خلق من خلقه سبع سماوات، فاستوى عليهن، وخلق الأرض سبعا، وجعل عدة الأيام سبعا، ورمي الجمار سبعا، وخلق الإنسان من سبع، وجعل رزقه من سبع، فقال عمر: خلق الإنسان من سبع، وجعل رزقه من سبع، هذا أمر ما فهمته؟ فقال: إن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} حتى بلغ آخر الآيات وقرأ: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا *[color=blue] وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} ثم قال: والأبُّ للدوابِّ. وخرجه ابن سعد في طبقاته عن إسحاق الأزرق، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، فذكره بمعناه، وزاد في آخره قال: وأما ليلة القدر فما نراها إن شاء الله إلا ليلة ثلاث وعشرين يمضين، أو سبع يبقين،
والظاهر أن هذا سمعه سعيد بن جبير من ابن عباس، فيكون متصلا، وروى عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دعا عمر الأشياخ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر ما قد علمتم: ((التمسوها في العشر الأواخر وترا)) ففي أي الوتر ترونها؟ فقال رجل برأيه: إنها تاسعة، سابعة، خامسة، ثالثة، ثم قال: يا ابن عباس تكلم، فقلت: أقول برأيي؟ قال: عن رأيك أسألك. فقلت: إني سمعت الله أكثر من ذكر السبع. وذكر باقيه بمعنى ما تقدم، وفي آخره قال عمر رضي الله عنه: أعجزتم أن تقولوا مثل ما قال هذا الغلام الذي لم تستو شؤون رأسه؟ خَرَّجَه الإسماعيلي في مسند عمر، والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وخرجه الثعلبي في تفسيره، وزاد: قال ابن عباس: فما أُراها إلا ليلة ثلاث وعشرين لسبع بقين. وخرج علي بن المديني في كتاب العلل المرفوع منه، وقال: هو صالح وليس مما يحتج به. وروى مسلم الملائي -وهو ضعيف- عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر قال له: أخبرني برأيك عن ليلة القدر. فذكر معنى ما تقدم، وفيه أن ابن عباس قال: لا أُراها إلا في سبع يبقين من رمضان، فقال عمر: وافق رأيي رأيك. وروي بإسناد فيه ضعف عن محمد بن كعب عن ابن عباس: أن عمر رضي الله عنه جلس في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فتذاكروا ليلة القدر، فذكر معنى ما تقدم. وزاد فيه عن ابن عباس أنه قال: وأعطي من المثاني سبعا، ونهى في كتابه عن نكاح الأقربين عن سبع، وقسم الميراث في كتابه على سبع، ونقعُ في السجود من أجسادنا على سبع، وقال: فأُراها في السبع الأواخر من رمضان، وليس في شيء من هذه الروايات أنها ليلة سبع وعشرين جزما، بل في بعضها الترديد بين ثلاث وسبع، وفي بعضها أنها ليلة ثلاث وعشرين؛ لأنها أول السبع الأواخر على رأيه،
وقد صح عن ابن عباس أنه كان ينضح على أهله الماء ليلة ثلاث وعشرين. خَرَّجَه عبد الرزاق وخرجه ابن أبي عاصم مرفوعا والموقوف أصح.
وقد استنبط طائفة من المتأخرين من القرآن أنها ليلة سبع وعشرين من موضعين:
أحدهما: أن الله تعالى كرر ذكر ليلة القدر في سورة القدر في ثلاثة مواضع منها، وليلة القدر حروفها تسع حروف، والتسع إذا ضربت في ثلاثة فهي سبع وعشرون.
والثاني: أنه قال: {سَلَامٌ هِيَ} فكلمة (هي) هي الكلمة السابعة والعشرون من السورة، فإن كلماتها كلها ثلاثون كلمة. قال ابن عطية: هذا من ملح التفسير، لا من متين العلم. وهو كما قال.
ومما استدل به من رجح ليلة سبع وعشرين بالآيات والعلامات التي رُوِيَت فيها قديما وحديثا، وبما وقع فيها من إجابة الدعوات فقد تقدم عن أبي بن كعب أنه استدل على ذلك بطلوع الشمس في صبيحتها لا شعاع لها، وكان عبدة بن أبي لبابة يقول: هي ليلة سبع وعشرين، ويستدل على ذلك بأنه قد جرب ذلك بأشياء وبالنجوم. خَرَّجَه عبد الرزاق وروي عن عبدة أنه ذاق ماء البحر ليلة سبع وعشرين فإذا هو عذب. ذكره الإمام أحمد بإسناده.
وطاف بعض السلف ليلة سبع وعشرين بالبيت الحرام فرأى الملائكة في الهواء طائفين فوق رؤوس الناس. وروى أبو موسى المديني من طريق أبي الشيخ الأصبهاني بإسناد له عن حماد بن شعيب عن رجل منهم قال: كنت بالسواد فلما كان في العشر الأواخر جعلت أنظر بالليل، فقال لي رجل منهم: إلى أي شيء تنظر؟ قلت: إلى ليلة القدر، قال: فنم فإني سأخبرك، فلما كان ليلة سبع وعشرين جاء، وأخذ بيدي فذهب بي إلى النخل، فإذا النخل واضع سعفه في الأرض، فقال: لسنا نرى هذا في السنة كلها إلا في هذه الليلة. وذكر أبو موسى بأسانيد له أن رجلا مقعدا دعا الله ليلة سبع وعشرين فأطلقه، وعن امرأة مقعدة كذلك، وعن رجل بالبصرة كان أخرس ثلاثين سنة، فدعا الله ليلة سبع وعشرين فأطلق لسانه فتكلم.
وذكر الوزير أبو المظفر بن هبيرة أنه رأى ليلة سبع وعشرين -وكانت ليلة جمعة- بابا في السماء مفتوحا شامي الكعبة، قال: فظننته حيال الحجرة النبوية المقدسة، قال: ولم يزل كذلك إلى أن التفت إلى المشرق لأنظر طلوع الفجر، ثم التفت إليه فوجدته قد غاب، قال: وإن وقع في ليلة من أوتار العشر ليلة جمعة، فهي أرجى من غيرها.
واعلم أن جميع هذه العلامات لا توجب القطع بليلة القدر.
وقد روى سلمة بن شبيب في كتاب فضائل رمضان: حدثنا إبراهيم بن الحكم، حدثني أبي قال: حدثني فرقد أن ناسا من الصحابة كانوا في المسجد، فسمعوا كلاما من السماء، ورأوا نورا من السماء، وبابا من السماء، وذلك في شهر رمضان، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأوا، فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أما النور فنور رب العزة تعالى، وأما الباب فباب السماء، والكلام كلام الأنبياء، فكل شهر رمضان على هذه الحال، ولكن هذه ليلة كشف غطاؤها)) وهذا مرسل ضعيف.