في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُرُوا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرَّها في السبع الأواخر)).
وفي صحيح مسلم عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي)). قد ذكرنا فيما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في شهر رمضان على طلب ليلة القدر، وأنه اعتكف مرة العشر الأوائل منه، ثم طلبها فاعتكف بعد ذلك العشر الأوسط في طلبها، وأن ذلك تكرر منه غير مرة، ثم استقر أمره على اعتكاف العشر الأواخر في طلبها، وأمر بطلبها فيه.
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)) وفي رواية للبخاري: ((في الوتر من العشر الأواخر من رمضان)).
وله من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان)). ولمسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التمسوها في العشر الغوابر)).
والأحاديث في المعنى كثيرة، وكان يأمر بالتماسها في أوتار العشر الأواخر؛ ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى)) وفي رواية له: ((هي في العشر في سبع يمضين أو سبع يبقين)). وخرج الإمام أحمد والنسائي والترمذي من حديث أبي بكرة قال: ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في العشر الأواخر، فإني سمعته يقول: ((التمسوها في تسع يبقين أو سبع يبقين أو خمس يبقين أو ثلاث يبقين أو آخر ليلة)).
وكان أبو بكرة يصلي في العشرين من رمضان كصلاته في سائر السنة، فإذا دخل العشر اجتهد، ثم بعد ذلك أمر بطلبها في السبع الأواخر.
وفي المسند وكتاب النسائي عن أبي ذر قال: ((كنت أسأل الناس عنها -يعني ليلة القدر- فقلت: يا رسول الله أخبرني عن ليلة القدر؟ أفي رمضان هي أو في غيره؟ قال: بل هي في رمضان. قلت: تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة. قلت: في أي رمضان هي؟ قال: التمسوها في العشر الأول والعشر الأواخر. قلت: في أي العشرين هي؟ قال: في العشر الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها، ثم حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اهتبلت غفلته فقلت: يا رسول الله أقسمت بحقي لما أخبرتني في أي العشر هي؟ فغضب علي غضبا لم يغضب مثله منذ صحبته، وقال: التمسوها في السبع الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها)). وخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم، وفي رواية لهما أنه قال: ((ألم أنهك أن تسألني عنها، إن الله لو أذن لي أن أخبركم بها لأخبرتكم، لا آمن أن تكون في السبع الأواخر)).
ففي هذه الرواية أن بيان النبي صلى الله عليه وسلم لليلة القدر انتهى إلى أنها في السبع الأواخر، ولم يزد على ذلك شيئا، وهذا مما يستدل به من رجح ليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين على ليلة إحدى وعشرين؛ فإن ليلة إحدى وعشرين ليست من السبع الأواخر بلا تردد، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر ((أنه بين أنها ليلة سبع وعشرين)) كما سيأتي إن شاء الله تعالى، واختلف في أول السبع الأواخر، فمنهم من قال: أول السبع ليلة ثلاث وعشرين على حساب نقصان الشهر دون تمامه؛ لأنه المتيقن. وروي هذا عن ابن عباس، وسيأتي كلامه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وفي صحيح البخاري عن بلال -رضي الله عنه- قال: إنها أول السبع من العشر الأواخر. وخرجه ابن أبي شيبة وعنده قال: ليلة ثلاث وعشرين.
وهذا قول مالك. قال: أرى -والله أعلم- أن التاسعة ليلة إحدى وعشرين، والسابعة ليلة ثلاث وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين. وتأوله عبد الملك بن حبيب على أنه إنما يحسب كذلك إذا كان الشهر ناقصا، وليس هذا بشيء، فإنه إنما أمر بالاجتهاد في هذه الليالي على هذا الحساب، وهذا لا يمكن أن يكون مراعًى بنقصان الشهر في آخره. وكان أيوب السختياني يغتسل كل ليلة ثلاث وعشرين، ويمس طيبا، وليلة أربع وعشرين ويقول: ليلة ثلاث وعشرين ليلة أهل المدينة، وليلة أربع وعشرين ليلتنا. يعني أهل البصرة.
وكذلك كان ثابت وحميد يفعلان، وكانت طائفة تجتهد ليلة أربع وعشرين. روي عن أنس والحسن وروي عنه قال: رقبت الشمس عشرين سنة ليلة أربع وعشرين فكانت تطلع لا شعاع لها. وروي عن ابن عباس ذكره البخاري عنه.
وقيل: إن المحفوظ عنه أنها ليلة ثلاث وعشرين كما سبق، وقد تقدم حديث إنزال القرآن في ليلة أربع وعشرين، وكذلك أبو سعيد الخدري وأبو ذر حسبا الشهر تامًّا فيكون عندهما أول السبع الأواخر ليلة أربع وعشرين، وممن اختار هذا القول ابن عبد البر، واستدل بأن الأصل تمام الشهر ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإكماله إذا غم مع احتمال نقصانه، وكذلك رجحه بعض أصحابنا، وقد تقدم من حديث أنس رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان ليلة أربع وعشرين لم يذق غمضا)) وإسناده ضعيف. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن أول السبع البواقي ليلة ثلاث وعشرين؛ ففي مسند الإمام أحمد عن جابر ((أن عبد الله بن أنيس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر وقد خلت اثنتان وعشرون ليلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: التمسوها في السبع الأواخر التي بقين من الشهر)).
وفيه أيضا عن عبد الله بن أنيس ((أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، وذلك مساء ليلة ثلاث وعشرين، فقال: التمسوها هذه الليلة، فقال رجل من القوم: فهي إذن يا رسول الله أولى ثمان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها ليست بأولى ثمان ولكنها أولى سبع، إن الشهر لا يتم)). وفيه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كم مضى من الشهر؟ قلنا: مضت ثنتان وعشرون، وبقي ثمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بل مضت ثنتان وعشرون وبقي سبع، اطلبوها الليلة)) وقد يحمل هذا على شهر خاص اطلع النبي صلى الله عليه وسلم على نقصانه، وهو بعيد، ويدل على خلافه أنه روي في تمام حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشهر هكذا وهكذا وهكذا ثم خنس إبهامه في الثالثة)) فهذا يدل على أنه تشريع عام وأنه حسب الشهر على تقدير نقصانه أبدا؛ لأنه المتيقن كما ذهب إليه أيوب ومالك وغيرهما، وعلى قولهما تكون ليلة سابعة تبقى ليلة ثلاث وعشرين، وليلة خامسة تبقى ليلة خمس وعشرين، وليلة تاسعة تبقى ليلة إحدى وعشرين
وقد روي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه أنكر أن تحسب ليلة القدر بما مضى من الشهر، وأخبر أن الصحابة يحسبونها بما بقي منه، وهذا الاحتمال إنما يكون في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)). وقد خَرَّجَه البخاري من حديث عبادة رضي الله عنه، ومسلم من حديث أبي سعيد، فإنه يحتمل أن يراد به التاسعة والسابعة والخامسة مما يبقى ومما يمضي.
فأما حديث ابن عباس وأبي بكرة وما في معناهما فإنها مقيدة بالباقي من الشهر، فلا يحتمل أن يراد به الماضي، وحينئذ يتوجه الاختلاف السابق في أنه هل يحسب على تقدير تمام الشهر أو نقصانه. وحديث ابن عباس قد روي بالشك فيما مضى أو يبقى، وقد خَرَّجَه البخاري بالوجهين، وحديث أبي ذر في قيام النبي صلى الله عليه وسلم بهم أفراد العشر الأواخر قد خَرَّجَه أبو داود الطيالسي بلفظ صريح: أنه قام بهم أشفاع العشر الأواخر وحسبها أوتارا بالنسبة إلى ما يبقى من الشهر، وقدَّره تامًّا، وجعل الليلة التي قامها حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح ليلة ثمان وعشرين، وهي الثالثة مما يبقى، وقد قيل: إن ذلك من تصرف بعض الرواة بما فهمه من المعنى، والله أعلم.
وعلى قياس من حسب الليالي الباقية من الشهر على تقدير نقصان الشهر فينبغي أن يكون عنده أول العشر الأواخر ليلة العشرين؛ لاحتمال أن يكون الشهر ناقصا فلا يتحقق كونها عشر ليالٍ بدون إدخال ليلة العشرين فيها. وقد يقال: بل العشر الأواخر عبارة عما بعد انقضاء العشرين الماضية من الشهر، وسواء كانت تامة أو ناقصة فهي المعبر عنها بالعشر الأواخر، وقيامها هو قيام العشر الأواخر. وهذا كما يقال: صام عشر ذي الحجة، وإنما يصام منه تسعة أيام. ولهذا كان ابن سيرين يكره أن يقال: صام عشر ذي الحجة، وقال: إنما يقال: صام التسع. ومن لم يكرهه وهم الجمهور فقد يقولون: الصيام المضاف إلى العشر هو صيام ما يمكن منه، وهو ما عدا يوم النحر، ويطلق على ذلك العشر؛ لأنه أكثر العشر. والله أعلم.