تتجلي لنا في الهجرة النبوية الشريفة معالم الدولة الراشدة التي أسس قواعدها المصطفي صلي الله عليه وسلم, ولعل أبرز هذه المعالم التي نحن بحاجة ماسة إلي الأخذ بها وتفعيلها ونحن نرنو لتحقيق إصلاح حقيقي معبر عن هويتنا ما يلي:
أولا: التخطيط المدروس: فلا بد للدولة العصرية من الاعتماد علي التخطيط وإعداد المستطاع من العدة وإزاحة المعوقات وتهيئة الأسباب, ونستطيع أن نتلمس ذلك بوضوح في الهجرة إلي المدينة التي خطط لها بإتقان, عن طريق اختيار دار الهجرة والأناس الذين سيهاجر إليهم, والرواحل والرفيق والدليل والغار, وأحيط ذلك كله بأسباب التوقي والاحتياط, فتم الأخذ بكل الأسباب الممكنة والمتاحة, وترك للإرادة الإلهية بعد ذلك ما لا حيلة للبشر فيه, فبعد هذا التخطيط الفائق وجه الرسول الكريم خطابه للصديق قائلا يا أبا بكر, ما ظنك باثنين الله ثالثهما, لا تحزن إن الله معنا, واستمر هذا التخطيط السليم سياجا لمعالم الدولة التي رادها رسول الله صلي الله عليه وسلم في كل مفردة من مفردات بناء الدولة
ثانيا: التماسك الاجتماعي: وحتي تحقق الدولة التقدم المنشود لا بد أن يكون أفرادها علي قلب رجل واحد مستمسكين براية العمل الجماعي وحب الانتماء للوطن; لذا حرص الرسول الكريم علي أن تكون هذه المعاني واضحة في الأذهان والسلوكيات, فأرسي قواعد الإخاء بين المهاجرين والأنصار وبين الأوس والخزرج; لتسيطر علي المجتمع روح المؤاخاة القائمة علي أحب لأخيك ما تحب لنفسك, فالكل ينصهر في بوتقة واحدة انتماء وسعيا وراء تحقيق الأفضل لوطنه وأمته.
ثالثا: العلم: وهو علم مؤسس علي الإيمان بالله والارتباط به, فكان من أول ما بدأ به الرسول الكريم عمله بالمدينة أن بني مسجدا ليكون مركز إشعاع علمي وثقافي, ينهل منه الكل بلا استثناء, فالمعرفة ليست حكرا علي أحد, ويجب أن تكون مصادر المعلومات متوافرة أمام الجميع, ولا بد أن تعتمد دولة العلم علي الإحصاء; لتعرف حقيقة وضعها الإقليمي, وكان رسولنا العظيم سباقا في هذا الميدان, فقد أمرهم بعد الهجرة مباشرة أن يحصوا له عدد المسلمين; ليعرف مقدار قوته الضاربة; ليرتب عليها أموره المستقبلية, وهو هنا يهدينا إلي أن الإحصاء مقدمة مهمة لأي تخطيط علمي سليم.
رابعا: حسن الجوار: وحتي تحقق الدولة معدلات التنمية الشاملة وتتفرغ للبناء والتعمير وتحسين أحوال مواطنيها لابد أن تقيم علاقات طيبة سلمية مع مجاوريها في المحيط الجغرافي; لذا حرص الرسول الكريم علي أن يعقد معاهدة مع يهود المدينة تضمن حسن الجوار المؤسس علي العدالة واحترام الآخر وخصوصياته, شرط أن يحترم هذا الآخر خصوصياتي وما بيننا من معاهدات, فالأصل في العلاقات الخارجية بين الدول الإسلامية وغيرها من الدول هو( السلم) الذي تتعدد مظاهره وتتنوع لتشمل التفاوض وإبرام المعاهدات وغير ذلك مما يستعان به في العلاقات الدولية وقت السلم, مما من شأنه أن يحقق التعاون والتعارف بين بني الإنسان قاطبة, والسلم ليس معناه الخنوع والتبعية المقيتة, وإنما هو سلم الأقوياء وهو السلم المسلح الذي ينشد الأمن والأمان للعالم بأسره, ومن ناحية أخري يردع المعتدين وناكثي العهود عن عدوانهم ونكث عهودهم, ويحفظ للدول المسالمة والمعتدلة هيبتها ورسالتها, وبالله التوفيق.
======================================
بقلم:د/ محمد عبد السلام كامل