قال الله تعالى (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا). [المزمل:8]
و "التبتل" الانقطاع. وهو َتَفعل من البتل وهو القطع .
وسميت مريم "البتول" لانقطاعها عن الأزواج، وعن أن يكون لها نظراء من نساء زمانها . ففاقت نساء الزمان شرفًا وفضلا. ومصدر "بتَّل" "تبتلا" كالتعّلم والتفهم، ولكن جاء على التفعيل – مصدر تفعل - لسر لطيف . فإن في هذا العمل إيذانًا بالتدريج والتكلف والعمل والتكثر والمبالغة. فأتى بالفعل الدال على أحدهما، وبالمصدر الدال على الآخر. فكأنه قيل: بتل نفسك إلى الله تبتيلا، وتبتل إليه تبتلا. ففهم المعنيان من الفعل ومصدره.
فالتبتل: الانقطاع إلى الله بالكلية . وقوله عز وجل : (له دعوة الحق ) [الرعد : 14 ] أي
التجريد المحض، أي التبتل عن ملاحظة الأعواض، بحيث لا يكون المتبتل كالأجير الذي لا يخدم إلا لأجل الأجرة، فإذا أخذها انصرف عن باب المستأجر.
والاستشهاد بقوله (له دعوة الحق ) في هذا الموضع : فيه إرادة هذا المعنى، وأنه تعالى صاحب دعوة الحق لذاته وصفاته، وإن لم يوجب لداعية بها ثوابً ا. فإنه يستحقها لذاته . فهو أهل أن يعبد وحده، ويدعى وحده، ويقصد ويشكر ويحمد، ويحب ويرجى ويخاف، ويتوكل عليه، ويستعان به، ويستجار به، ويلجأ إليه، ويصمد إليه. فتكون الدعوة الإلهية الحق له وحده. فقال علي رضي الله عنه دعوة الحق : "التوحيد" وقال ابن عباس رضي الله ع نهما "شهادة أن لا إله إلا الله " وقيل: الدعاء بالإخلاص . والدعاء الخالص لا يكون إلا لله . ودعوة الحق دعوة الإلهية وحقوقها وتجريدها وإخلاصها.
و "التبتل" يجمع أمرين: اتصا ً لا وانفصا ً لا. لا يصح إلا بهما.
فالانفصال: انقطاع قلبه عن حظوظ النفس المزاحمة لمراد الرب منه. وعن التفات قلبه إلى ما سوى الله، أو رغبة فيه، أو مبالاة به، أو فكرًا فيه.
والاتصال: لا يصح إلا بعد هذا الانفصال . وهو اتصال القلب بالله، وإقباله عليه، وإقامة وجهه له، حبًا وخوفا ورجاء، وإنابة وتوكلا.
ولكن التبتل لا يكتمل حتى يكون انقطاع المتبتل عن النفس، بمجانبة الهوى، وتنسم روح الأنس، فإن في مجانبة الهوى ومخالفة الهوى ونهي نفسه عنه : تنسم روح الأنس بالله، والروح للروح كالروح للبدن، فهو روحها وراحتها، وإنما حصل له هذا الروح لما أعرض عن هواه،فحينئذ يتنسم.(1)
==================================================
1-تهذيب مدارج السالكين(295-296)