ثم مشهد الذل، والانكسار، والخضوع،والافتقار للرب جل جلاله . فيشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة، وافتقارًا تامًا إلى ربه ووليه، ومن بيده صلاحه وفلاحه، وهداه وسعادته . وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارُة حقيقتها . وإنما تدرك بالحصول فيحصل لقلبه كسرة خاصة لا يشبهها شيء . بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل، الذي لا شيء فيه، ولا به ولا منه، ولا فيه منفعة، ولا ًيرغب في مثله . وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيمه . فحينئذ يستكثر في هذا المشهد ما من ربه إليه من الخير.
فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور ! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه ! وما أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه!
قيل لبعض العارفين : أيسجد القلب؟ قال : نعم يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء . فهذا سجود القلب.
وإذا سجد القلب لله هذه السجدة العظمى - سجدت معه جميع الجوارح . وعنا الوجه حينئذ للحي القيوم . وخشع الصوت والجوارح كلها . وذل العبد وخضع واستكان، ووضع خده على عتبة العبودية، ناظرًا بقلبه إلى ربه ووليه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم.
يا من ألوذ به فيما أؤمله*** ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره*** ولا يهيضون عظما أنت جابره
فإذا استبصر في هذا المشهد، وتمكن من قلبه . وباشره وذاق طعمه وحلا وته ترقَّى منه إلى مشهد العبودية والمحبة، والشوق إلى لقائه، والابتهاج به، و الفرح والسرور به .
فتقر به عينه، ويسكن إليه قلبه . وتطمئن إليه جوارحه ويستولي ذكره على لسان محبه وقلبه. فتصير خطرات المحبة مكان خطرات المعصية . وإرادات التقريب إليه وإلى مرضاته، مكان إرادة معاصيه ومساخطه، وحركات اللسان والجوارح بالطاعات، مكان حركاتها بالمعاصي. قد امتلأ قلبه من محبته. ولهج لسانه بذكره. وانقادت الجوارح لطاعته.