بيد أن العرب تغالوا في المعارضة ، حتى لقد وصلوا أحيانا إلى حد السخف ، و لكن القرآن كان لهم بالمرصاد ، و كان دائماً يفحمهم في قوة.
لقد قالوا: (ما هذا الرسول يأكل الطعام ، و يمشي في الأسواق ؟) (1) فرد الله عليهم بما يقطع حجتهم.
( و ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم يأكلون الطعام و يمشون في الأسواق) الفرقان/20. و قال: (و لقد أرسلنا رسلاً من قبلك و جعلنا لهم أزواجاً و ذرية) الرعد/38.
و لم يجد اليهود و لا النصارى مفراً من الإعتراف بأن الرسل السابقين كانوا حقاً كذلك.
و قال العرب: (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ؟ ) الفرقان/32.
فإذا بالقرآن يعلل ذلك تعليلاً في غاية القوة و الوضوح:
(كذلك لنثبت به فؤادك و رتلناه ترتيلا) (2) الفرقان/32.
و قالوا : (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيمٍ !) الزخرف/31.
فرد عليهم القرآن في أسلوب لاذع:
(أهم يقسمون رحمة ربك) الزخرف/32.
و رأوا أن يكون الرسول ملكاً ، فإذا بالقرآن يجيبهم في منطق صارم:
( و لو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً و للبسنا عليه ما يلبسون) الأنعام/9.
و يذكر ذلك في موقع آخر مصوراً تعنتهم في إنكار النبوة فيقول:
( و ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً ؟ ) الإسراء/94.
و يرد عليهم القرآن معللاً الأمر بتعليل آخر غير السابق فيقول:
( قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً ) الإسراء/95.
و هذا التعليل في غاية العمق ، فإنه ينطوي على سبب من أهم أسباب إرسال الرسل فالملائكة ليسوا – بطبيعتهم – في حاجة إلى من يهديهم من الناحية الأخلاقية ، إنهم ملائكة.
و يتعمد القرآن أن يصفهم بأنهم "يمشون مطمئنين" فيثبت بذلك توضيح طبيعتهم الملائكية في أذهاننا ، و مع ذلك يقول :
(لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً)
لم ؟ إنهم ملائكة ، و هم يمشون مطمئنين فما حاجتهم إلى الرسالة ؟
الواقع أن مهمة الرسول الأولى ليست الأخلاق ، و إنما هي معرفة الله و الملأ الأعلى و ما وراء الطبيعة ، و ذلك لا يتأتى في صحة لا يشوبها خطأ بمنطق عقلي أو قياس نظري ، و إنما يأتي عن الله بسفرائه إلى عباده و هم الرسل.
و الملائكة كالبشر : عاجزون عن معرفة الله إلا به ، و لقد قالو كما حكى القرآن عنهم في سورة البقرة.
(سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ) (3) ، أما الأخلاق فإنها في المرتبة الثانية بعد معرفة الله.
و أرجفوا : بأن محمداً صلى الله عليه و سلم يستمد القرآن من شخص معين فرد عليهم القرآن في قوة:
(لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، و هذا لسان عربي مبين) النحل/103.
و لما استيئس العرب من الجدل المنطقي تقمصوا عقلية الصبيان:
( و قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ، أو تكون لك جنة من نخيل و عنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله و الملائكة قبيلاً ، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ، و لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه ) (4)
فيجيبهم القرآن في سهولة قوية لاذعة جادة ساخرة:
( قل : سبحان ربي ! هل كنت إلا بشراً رسولاً ؟ ) الأسراء/93
و يثور العرب ، حينما يرون منطقهم ينهار فينادون:
(يأيها الذي نزل عليه الذكر ، إنك لمجنون ، لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ؟ ) الحجر/6،7.
و يرد عليهم القرآن مبينا لهم ما قد خفى عنهم.
( ما ننزل الملائكة إلا بالحق و ما كانوا إذا منظرين ) الحجر/8.
و يصور القرآن في النهاية موقفهم الحقيقي الذي لا يخرج عن أن يكون عناداً لا شائبة فيه لطلب الحق ، و لا للرغبة في الهدى فيقول:
( و لو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ، لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ) (5)
( ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) الأنعام/7.
_________________
(1) سورة الفرقان آية: 7.
(2) و هذا أيضاُ من اعتراضاتهم ، و اقتراحاتهم الدالة على شرودهم عن الحق ، و تجافيهم عن أتباعه ، قالوا: هلا نزل عليه دفعة واحدة ، في وقت واحد ، كما أنزلت الكتب الثلاثة ، و ما له أنزل على التفاريق ؟ ، و القائلون قريش ، و قيل اليهود.
و هذا فضول من القول ، و مماراة بما لا طائل تحته : لأن أمر الإعجاز و الاحتجاج به لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرقاً ، و قوله تعالى ، (كذلك لنثبت به فؤادك) جواب لهم أي كذلك أنزل مفرقاً.
و الحكمة فيه : أن تقوى بتفريقه فؤادك حتى تعيه و تحفظه لأن التلقن : إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئا بعد شئ و جزءا عقيب جزء ، و لو ألقى عليه جملة واحدة لتعل به و تعيا بحفظه ، و الرسول صلى الله عليه و سلم فارقت حاله حال موسى و داوود و عيسى عليهم السلام حيث كان أمياً ، لا يقرأ و لا يكتب ، و هم كانوا قارئين كاتبين ، فلم يكن له بد من التلقي و التخفظ ، فأنزل عليه منجماً في عشرين سنة ، و قيل في ثلاث و عشرين ، و أيضاً فكان ينزل على حسب الحوادث و جوابات السائلين .. "عن الزمخشري ج2 ص109" (م6 – القرآن ) (م1).
(3) أية: 32.
(4) سورة الإسراء آيتا: 90-93.
(5) سورة الحجر أيتا: 15،14.