لقد كان من الطبيعي – بعد أن ثبتت النبوة – أن يتلقى العرب كل ما جاء في القرآن بالقبول ، و لكن القرآن لم يلقى القول على علاته ، و إنما يأتي بالقضية مبرهناً عليها بالدليل تلو الدليل : فيرضى العقل ، و يطمئن النفس ، و يقود الضمير إلى الإذعان.
و برغم أن وجود الله أوضح من أن يبرهن عليه فقد وجد في كل الأزمنة من جحدوا الصانع المدبر العالم القادر ، و زعموا أن العالم لم يكن موجوداً كذلك بنفسه و بلا صانع ، و لم يزل الحيوان من النطفة ، و النطفة من الحيوان ، كذلك كان ، و كذلك يكون أبداً (1) .
على هؤلاء – في كل زمان و مكان – يرد القرآن في استفاضة و في تنوع ، و ما من شك في أن مسألة إثبات وجود الله لم تكن في يوم من الأيام هدفاً من أهداف القرآن ، و لم تكن في يوم من الأيام هدفاً من أهداف الرسول صلى الله عليه و سلم ، أو أحد أصحابه ، و ذلك أن الإيمان بوجود الله مسألة نظرية و بديهية ، و نحن هنا نسير على أنه يمكن أن يؤخذ من القرآن أدلة على وجود الله و إن لم يكن ذلك هدفاً من الأهداف القرآنية ، و إذا نسقنا الأدلة أونظمناها فإنما يرجع ذلك إلى استنتاج من نصوص هدفها الصحيح بيان عظمة الله و تدبيره و قدرته و هيمنته على كل ما في العالم من صغيرة و كبيرة و بيان عناية الله و رعايته و إحكامه المحكم و إبداعه المتقن لكل ما يسري في العالم من قوانين و نواميس.
إن القرآن يمكن أن يؤخذ منه الرد على من انحرفت فطرتهم فيقال : إنه يرد عليهم أولاً بضروريات فكرية ، فيثبت الدلالة الضرورية من الخلق على الخالق:
( أفي الله شك فاطر السموات و الأرض ) (2)
( و من آياته أن خلقكم من تراب ) (3) ، ( و من آياته خلق السموات و الأرض ) (4).
و يؤكد هذا بمبادئ مقررة يعترف بها كل إنسان عندما يفكر فيها تفكيراً بسيطاً أنه من البين أن الشئ لا يمكن أن يوجد بدون علة ، و لا يمكن من جانب آخر أن تكون علته صياغة نفسه:
( أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون ؟) (5)
و لا يقتصر القرآن على ذلك بل يورد في غير ما موضع و في غير ما سورة ، ذلك الدليل الذي يقول عنه "كانت" إنه يذكر مع الإحترام : أعني الدليل الذي يطلق عليه أحياناً ، دليل العناية ، و أحياناً أخرى : دليل النظام ، أو التدبير ، أو الغائية ، و هذا الدليل ، هو الذي يستند إلى ما نراه في العالم من تناسق ، و تضامن و انسجام ، و من تدبير محكم ، و عناية تامة بكل صغيرة و كبيرة ، و ترابط لا انفصام له بين أجزاء العالم و أجزاء وحداته أيضاً.
و قد استخدم القدماء هذا الدليل ، و لا يزال المحدثون يستخدمونه ، و يعتبره بعضهم أوضح الأدلة على وجود الله ، بل أقواها ، و هو في الوقت نفسه أسهلها بالنسبة للإدراك الإنساني.
_______________
(1) المنقذ من الضلال للغزالي: طبعة دار الكتب الحديثة.
(2) سورة إبراهيم آية: 10.
(3) سورة الروم آية: 20.
(4) سورة الروم آية: 22.
(5) سورة الطور آية: 35.