و تأتي مشكلة الملاحدة و الوجوديين المنكرين لوجود الله ، ماذا نفعل بإرائهم ؟
إن مثل هؤلاء لا وجود لهم في مجتمع سليم طاهر ، و يكفي اعتزالهم كمرض خبيث ينفر الإنسان منه ، و يكفي عزلهم عن أن يفسدوا الآخرين: تلاميذ كانوا أو طلبة ، أو عمالاً أو زارعين ، و لن تمر فترة طويلة عليهم في هذا الوضع حتى يرتدعوا و يعدلوا عن اتباع أهوائهم و شهواتهم.
و ما الوجودية إلا الهوى ، إنها هوى النفس التي لا تحتمل القيام بالواجب الإجتماعي و الديني..
و الإلحاد ضعف ، لأنه محاولة للفرار من التكاليف.
و مع كل ما تقدم فإنه لا يتأتى لي أن أترك هذا المجال دون أن أذكر قصة سمعتها حديثاً هزتني من الأعماق أيضاً ، و و قعت من نفسي موقعاً من الروعة و الجلال لا يمكنيي تصوير مداه.
لقد ذكر لي هذه القصة فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ مدثر الحجاز وكيل جامعة أم درمان و رئيس الطريقة التيجانية بالسودان:
في إحدى القرى النائية المنعزلة من قرى السودان – كان يعيش رجل عابد صالح ، و كان يقضي وقته بين المسجد و البيت ، لم يكن يفارق القرية يوما ما ، و القرية في إنعزالها كأنها – بالنسبة له – العالم كله.
و في يوم من الأيام ، و في ظروف معينة غادر هذا الرجل الصالح القرية بصحبة صديق له ، و جدا في السير حتى وصلا إلى الطريق الذي يؤدي إلى المدينة ..
و ما إن وصلا إلى الطريق حتى رأيا – بطريق المصادفة - رجلاً من رجال الجيش الإنجليزي بملابسه العسكرية مترف المظهر ، متحلياً بكل ما يمكن أن يتزين به رجل الجيش المترف الأنيق .. و لم يكن الشيخ الصالح قد أتاحت له الظروف رؤية مثل هذا المنظر في قريته أو في عالمه المنعزل النائي الذي اختصره الشيخ – مع صغره – من قرية إلى بيت إلى مسجد.
و تأمل الشيخ رجل الجيش الإنجليزي في دهشة ، ثم سأل صديقه مشيراً إلى هذا الشئ الغريب:
- ما هذا ؟
- هذا خواجة . و ما كانت كلمة خواجة قد دخلت في قاموس الشيخ.
- و ما خواجة ؟
- هذا كافر ..
و عاد الشيخ يسأل في دهشة أشد ، و في استغراب أقوى:
- أهو كافر بالله ؟
- نعم ..
و ما إن نطق صديقه بذلك حتى تملك الشيخ شعور بالاشمئزاز منعه من أن يتلفظ أو ينطق ، و غمره إحساس بالغثيان أخذ يقوى و يزداد بسرعة سريعة و إذا بالشيخ يتقيأ اشمئزازاً و غثياناً و تقززاً من هذا الكافر ..!
هذه هي القصة.
أترى تصويراً أدق للشعور بالنسبة للملحد من هذا الاشمئزاز ؟
و أي قلم يبلغ في التعبير ما بلغ هذا الشيخ ؟ و أي أسلوب ؟
إن جميع الأعراف في جميع أرجاء الكون تتفق في الاشمئزاز ممن ينكر الجميل ، و هذا الاشمئزاز يتفاوت بنسبة قيمة الجميل الذي يسدى ، و بنسبة درجة النكران التي تقابله و بنسبة صفاء النفس التي تعلم أو ترى هذا النكر.
و الإنسان – إيجاداً و خلقاً و تصويراً – من صنع الله .. و هو – بصراً و سمعاً و ذوقاً و إحساساً و شعوراً – من صنع الله .. و هو – عقلاً و فكراً – من صنع الله .. و كل نعمة ظاهرة و باطنة – و نعم الله لا تعد – إنما هي من صنع الله ..
(و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)(1) .. (وما بكم من نعمة فمن الله)(2)
من نعم يتقلب فيه ليلاً و نهاراً ، صباحاً و مساء- إن كل ذلك من الله فإذا ما كفر إنسان بالله فإنه يكون أخس من أن يعاقبه الإنسان بالصفع ، و أحقر من أن يبصق الإنسان في وجهه ، و لا يستاهل إلا الاشمئزاز إلى درجة التقايؤ ..
أما الجزاء في الدين الإسلامي فإنه معروف :
يستتاب ، فإن لم يتب قتل مرتداً.
و مما لا شك فيه أن من الوسائل الكريمة التي تحول دون انتشار هذه القيادات الفاسدة الملحدة في المجتمع ما يرجع إلى علماء الدين: فإنهم و قد هيأ الله لهم أن يتولوا قيادة المجتمع دينياً لاشك يكون تأثيرهم جارفاً إذا كانوا مثلاً عالياً للفضيلة: للفضيلة في أسمى معانيها و أشملها .. أي إذا كانوا - حقاً – بالمنزلة التي ترضي الله و رسوله : علماً و خلقاً و حباً للخير ، و إخلاصاً في كل ما يأتون و ما يدعون. و قد بين الله مقاييس الخير و موازين الفضيلة ، و بين طريق الخير و سبل الضلال ، و علماء الدين أعرف بذلك من غيرهم ، فمسئوليتهم أشد و واجباتهم أصرم ، و تأثيرهم في المجتمع – باديةً و حاضرةً - ، لاشك كبير .. و الله يهدينا جميعا سواء السبيل.
__________________
(1) سورة النحل آية :18.
(2) سورة النحل آية :53.