و لو قيض الله للبيئة اليونانية جواً من الخير و الهدى ، و لو أنعم الله عليهم بنشأة رسول فيه – لما كان هذا الإنحراف الذي انتشر فيهم – منذ أرسطو – انتشار الوباء الخبيث ، و الذي تغلغل حتى وصل به الأمر – و هو انحراف منحرف – إلى أن أصبح – و كأنه الوضع الطبيعي – فساداً في كل بيئة ، و غزا كل عقل ، و كلما تقدم به الزمن ازداد رسوخا و ثباتا ، و ازداد انتشارا ، حتى لقد غزا الأديان التي تأبى أن تقره أو تعترف به.
لقد تغلغل في المسيحية ، فوضع رجال المسيحية مسألة وجود الله و قضية الفضيلة موضع البحث ، و نزلوا إلى مجال المجادلة و المماراة !
و أخذ هذا الوضع يتخطى القرون حتى جاء الإسلام ، فوضع الأمر في نصابه ، و وجه الأذهان إلى أن الأمر الأساسي إنما هو مسألة الوحدانية " أشهد أن لا إله إلا الله " وجه الإسلام الأذهان في عنف وفي قوة إلى التوحيد ، لا إلى إثبات الوجود.
لقد وجه الإسلام الأذهان إلى أن الله لا يحتاج في إثباته و في وجوده إلى دليل و هو – على العكس – الدليل على غيره ، فغيره ثابت به ، و العالم ثابت بثباته ..
و السموات و الأرض و العرض و الكرسي – كل ذلك موجود بوجوده ، ثابت بثباته .. و الوجود بأكلمه محتاج في كل لحظة إليه فضلا عن احتياجه إليه في نشأته الأولى و وجوده الأصلي .. ( إن الله يمسك السموات و الأرض أن تزولا) (1)
إنه يمسكها في كل آونة و في كل لحظة ، فإذا ما تخلى عنها طرفة عين تلاشتا فكانا هباء، و كانتا عدماً .. و كل ذرة في العالم ، و كل خلية في كائناته – إنما ثباتها بالله و قيامها به ..
و مثل الإنسان كمثل أي كائن آخر من حيث وجوده و قيامه بالله ، و قد كرمه الله و أعطاه الكثير من المنح و الهدايا و وهب له هذا التمييز و الفهم ، و سخر له الكثير من العوالم الأخرى و جعله خليفة في الأرض.
و من أجل ذلك كانت مسئوليته فيما يتعلق بتصحيح الصلة بينه و بين الله عظيمة خطيرة.
أما تصحيح هذه الصلة فإن ذروتها العليا و مثلها الأسمى إنما هو ما أمر به صلوات الله و سلامه عليه في قوله تعالى:
( قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين ، لا شريك له و بذلك أمرت و أنا أول المسلمين ) (2)
و فرق هائل بين من يتخذ هذه الآية القرآنية شعاراً ، و من يحاول – متجاوزاً قدره – الاستدلال على وجود الله بمخلوق من مخلوقاته ..
إن الفرق بينهما هو الفرق بين طريق الهدى و الصواب ، و طريق الجدل و الشك ، و جاء الإسلام - كما قلنا – ليضع الأمور في نصابها ، و ليصحح الأوضاع التي انحرفت.
و من هذه الأوضاع المنحرفة الشرك بالله ، و الإنسان يشرك بسبب الضعف على وجه العموم ، و قد يكون هذا الضعف فقراً ، و قد يكون جهلاً ، و قد يكون طمعاً و جشعاً ، و قد يكون خوفاً و فزعاً ، و قد يكون غير ذلك .. و مهما يكن من أمر الشرك فإنه – أينما وجد – ليس إلا مظهراً من مظاهر الضعف..
و حاول الإسلام أول ما حاول أن يطهر النفوس من هذا الضعف ، و أن يعيدها بالتوحيد – إلى مجالات العزة و الكرامة .. ( و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين ) (3) ، فكانت دعوته للتوحيد.
______________
(1) سورة فاطر آية : 41.
(2) سروة الأنعام آيتا : 162 ، 163.
(3) سورة المنافقون آية : 8.