ن روائع مناجاة ابن عطاء الله السكندري ما يلي:
" إلهي ، كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ؟ "
" متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ؟ "
" و متى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل لك "
إن مسألة وجود الله (1) لم تكن في يوم من الأيام محل بحث عند ذوي الشعور الديني السليم ..
و لم ينشأ الجدل في هذه المسألة إلا في العصر اليوناني ، فهو العصر الذي جعل منها مشكلة قابلة للأخذ و الرد ، و القبول و الرفض:
و الواقع أن ظروف العصر اليوناني القديم هي التي جعلت منه مثلاً سيئاً في كل ما يتعلق بالدين و الخلق.
لقد كان عصراً خلا من الدين الحق ، و لم ينعم بالمعرفة الصحيحة عن طريق الوحي ، فحاولت طائفة منه أن تصل إلى الوحي عن طريق الكهانة ، و من ذلك كاهنات معبد دلفي المشهورات ..
و حاولت طائفة أخرى أن تصل إلى الوحي عن طريق النسك و العبادة و الذكر ، و من هؤلاء : فيثاغورث و أتباعه و أفلاطون و الأفلاطونيون ، القدماء منهم و المحدثون ، لقد حاولوا أن يقتنصوا الوحي اقتناصاً ، و أن يكشفوا عن الحجب و أن يزيلوا الأقنعة ، و أن يصلوا إلى الله ، فيتصلوا بالجمال و الجلال و الخير المطلق .
بيد أن الطريق الذي سلكوه إنما هو طريق خاطئ لأنه لم يؤسس على وحي يرسم طريق الهداية الصحيح ، و إنما أسس على نهج عقلي بشري ، أو على تقاليد متوارثة.
و من أجل ذلك لم ينتج الثمرات المرجوة ، ثم هو طريق صعب المرتقى ، لأنه يعارض النزعات الحيوانية في الإنسان ، و يحاول السمو بها و إعلاءها ، و يريد أن يرقى بالإنسان إلى ما يقرب من المستوى الروحي الملائكي.
و لكن بني البشر في الأغلب منهم يخلدون إلى الأرض ، و يتبعون أهواءهم ، و لذلك كانت قلة قليلة تلك الفئة التي حاولت اتباع هذا التيار في صرامة و إخلاص.
أما الأغلبية العظمى من اليونان فقد اتبعوا التيار الذي يعتمد على العقل البشري اعتماداً كلياً ، وكان زعيمهم الأكبر في ذلك أرسطو: فهو الذي وطد أركان العقل البشري و أشاد به كأساس للبحث في عالم ما وراء الطبيعة ، و في عالم الفضيلة أو الخير.
و ما كان العقل في يوم من الأيام – عند حكماء المصريين أو حكماء الهنود – أهلاً لأن يكون مصدر المعرفة في عالم الغيب.
و أخذ العقل – عقل أرسطو و من لف لفه – يجادل و يماري في الحقائق: صغرت أو كبرت ، و دقت أو جلت ، واضحة كانت كوضوح النهار ، أو خفية كأنها غلفت بقطع من الليل المظلم ، و تجرأت أقلامهم على تناول عالم الغيب و عالم الخير بالإنكار أو الشك ، أو ترجيح الوجود أو ترجيح العدم.
و حاول كل زعيم أن يصور الأمر في هذين الميدانين – ميدان ما وراء الطبيعة ، و ميدان الأخلاق – بحسب مزاجه و أهوائه ، و بحسب ما تمليه عليه ثقافته و بيئته ، و بحسب ما تمليه عليه طبيعته الجسمانية و جبلته الخلقية.
و انتهى الأمر بأن حاول المثبتون الرد ، فحاول المنكرون تعليل الرفض .. و زالت قدسية الموضوع ، و أصبحنا أمام جو من اللجاج و المماراة لا يليق بجلال الله و عظمته ( و ما قدروا الله حق قدره ) (2)
________________
(1) حينما يكتب الكاتبون عن مثل هذا الموضوع يبدءون عادة بإثبات وجود الله سبحانه و تعالى ، و يتخيلون أن هذه المسألة أهم ما في الموضوع .. و هذا النهج فيما نرى – لا يقره دين و لا تقره فطرة ، و قد حاولنا أن نستفيض في بيان رأينا في هذا النهج مبينين أن الدين لا يضع مسألة وجود الله موضع بحث ، و أن الفطرة السليمة لا تقر ذلك.
(2) سورة الحج آية : 74.