تتعرض الثقافة الاسلامية لوأد متمثل في طمس نفائسها, وتشويه معالمها, تعاميا أو تجاهلا من محاور عدة بعضها منسوب إلي مسلمين والآخر منسوب إلي غيرهم, وإن اختلفت المقاصد من إعلاء مذهبية وطائفية.
إلا أن الوسائل مع تنوعها تتفق في الجهل به, ومن مظاهرالوأد المشين للثقافة الصحيحة:
أولا: عدم فقه النص.:
سواء من جهة طرق وروده أو دلالته, يعني بهذا النص الشرعي, القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة, حيث يتعرض النص لافتراء واجتراء معا, وبواعث هذا عدم فهم دلالة الألفاظ والسياق وسبب النزول في النص القرآني, وواقعة الحديث النبوي الشريف, ووجه الدلالة في كل من الناسخ والمنسوخ, ومن هنا تكون المغالاة والتشدد بانتزاع رأي مذهبي من النص علي غير العمل العلمي السليم, والانفلات والخروج والمروق, للطعن في طرق الورود ويكثر هذا في الحديث الشريف, والأمثلة كثيرة, فخاض من خاض في الذات الالهية والأسماء والصفات, واستحدث ماليس في دلالة النص مثل تقسيم التوحيد إلي إلوهية وربوبية وأسماء وصفات, والقول بحرفية النص في ألفاظ علي أنها صفات مثل العين, واليد, والوجه.. الخ, ويوهم العوام أن هذه الألفاظ لها عمل الحواس ـ تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا ـ مع إغفال وإهدار السياق, ونسبة هذا الخلط إلي السنة والنبي وصدر الأمة! علي خلاف الحقيقة والواقع! وكتقديس بعض كبار الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وأئمة آل البيت ـ رضي الله عنهم ـ بتأويلات خاطئة لبعض النصوص, علي خلاف مراد النص, أو إختلاق أخبار ونسبتها إلي مبلغ الرسالة ـ صلي الله عليه وسلم.
إن غياب فقه النص وتواري الآلية العلمية السليمة المعتمدة المعتبرة, وجنوح غير متخصصين لترويج أفكار مذهبية, ورمي غيرهم بالنقائص, ومانتج عن ذلك من آراء وأحكام عقائدية وعملية وأخلاقية وغيرها ونسبة هذا تزويرا وتدليسا وتلاعبا بعواطف العوام إلي حامل الرسالة الخاتمة صلي الله عليه وسلم وجنوح غيرهم إلي تقديم العقل علي النص والأخذ بالهوي العقلي علي حساب ثوابت ومسلمات وأصول شرعية مستقرة لاتقبل اجتهادا ولا نظرا إلا في عرض دلالتها عرضا سليما.
إن الفقه السليم للنص الشرعي يستوجب العلم السليم بالدلالة اللفظية, وطرق الورود من قطعية أو ظنية, ودرجات الطرق الظنية مثل مافي الأحاديث النبوية, ومايتصل بذلك كله من الناسخ والمنسوخ وسبب النزول وواقعة الخبر, ومراعاة المقاصد التي لابد من مراعاتها مع دلالة الألفاظ حتي يكون العمل الاجتهادي عملا متوازنا ومتكاملا يرتكز علي العلم بالدلالة والمقصد.. هكذا تكون آلية الاستنباط المشار إليها في القرآن الكريم ـ قال الله تعالي: ولو ردوه إلي الرسول وإلي أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم الآية83 من سورة النساء, وبقوله سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم إن المجتهد إذا أصاب فله أجران... الحديث
ثانيا: التعبد بأقوال بشرية:
من خصائص وسمات الاسلام عدم وجود كهنوت يضفي علي أقوال بشرية هالة القداسة, إلا أن عوادي التمذهب البغيض والتقليد أدي إلي تقديس نصوص بشرية من أئمة العلم فصارت لها قوة قداسة النص الشرعي المعصوم! وانسحب هذا بدوره علي أحكام وآراء صارت من أساسيات المذهبية, وتروج علي أنها الاسلام سواء كان ذلك صحيحا أو غير صحيح! كليا أو جزئيا, أصوليا أو فروعيا, أو غير ذلك. شاعت بسبب ذلك أحكام عسرة, وعدم اتفاق بعضها مع واقع, وسبب ذلك شغبا علي الدين الحق من متربصيه ومترصديه, والأمثلة علي ذلك كثيرة وغزيرة في أيامنا هذه!!
ثالثا: الانقلاب علي الثوابت:
من المعلوم أن للدين الحق مكونات ثابتة بطرق قطعية ودلالاتها قطعية مثل أصول الايمان والشريعة والأخلاق وهذه الأصول معلومة من الدين بالضرورة مسلمات شرعية في قوة مسلمات عقلية في كل الأزمنة والأمكنة, ومع استقرارها التشريعي إلا أن خروجا عليها إما بعدم الاعتداد بالدلالة التي تلقتها الأمة بالقبول, والجنوح إلي شذوذ وآراء مرجوحة, والتعلل بعلل واهية من عينة تنوير وحداثة أو هم رجال ونحن رجال!! وطمست جواهر ونفائس وذخائر في ركام اجتراء وافتراء, وطغيان جزئيات علي كليات, وفروعيات علي أصوليات, وأدي الفهم المعوج السقيم إلي تفريغ الدين الحق من مضمونه منهج حياة متكامل إلي تدين مغلوط وثقافة مغشوشة, أو جعله مجرد طقوس مجردة حبيسة في أطر مكان أو زمان أو أشخاص! عدوان مافوقه عدوان علي صحيح الثقافة الاسلامية يستوجب دفعه للحفاظ علي سلامة الدين وحسن فهمه وحسن عرضه من علماء راسخين متجردين لله عز وجل خدمة لصحيح الثقافة الاسلامية ودفعا لعوائل المغالات والتشدد والخروج والمروق.
إن صحيح الثقافة الاسلامية يعبر عن روح الدين الحق ومقاصده, جوهره ومضمونه, الذي يجمع بين الحسيات والمعنويات, بين الدنيا والآخرة, دون إغفال لأصالة الماضي ودون قداسة لها ودون إهدار لمعاصرة الحاضر وعدم تغليبها علي ماقبلها. والدين الحق بمكوناته أعلي من مذهبيات ضيقة وتقليد أسن, وإدعاء ثقافة وانتحال تفكير تحت مسمي مثقف ومفكر.
===========================================
بقلم:د. أحمد محمود كريمة