Mohammed Ali عضو الماسي
| | و ظيفة شهر شعبان-المجلس الأول في صيامه-الحكمة في النهي عن صيام الدهر-2 | |
قيل: صيام داود الذي فضله النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصيام، قد فسره النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر، بأنه صوم شطر الدهر وكان صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا جمع يبلغ صيام نصف الدهر أو يزيد عليه. وقد كان يصوم مع ما سبق ذكره يوم عاشوراء أو تسع ذي الحجة. وإنما كان يفرق صيامه ولا يصوم يوما ويفطر يوما؛ لأنه كان يتحرى صيام الأوقات الفاضلة. ولا يضر تفريق الصيام والفطر أكثر من يوم ويوم إذا كان القصد به التقوي على ما هو أفضل من الصيام من أداء الرسالة وتبليغها والجهاد عليها والقيام بحقوقها. فكان صيام يوم وفطر يوم يضعفه عن ذلك، ولهذا لما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي قتادة عمن يصوم يوما ويفطر يومين؟ قال: ((وددت أني طوقت ذلك)) وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص لما كبر يسرد الفطر أحيانا ليتقوى به على الصيام، ثم يعود فيصوم ما فاته محافظة على ما فارق عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من صيام شطر الدهر، فحصل للنبي -صلى الله عليه وسلم- أجر صيام شطر الدهر وأزيد منه بصيامه المتفرق، وحصل له أجر تتابع الصيام بتمنيه لذلك، وإنما عاقه عنه الاشتغال بما هو أهم منه وأفضل. والله أعلم.
وقد ظهر بما ذكرناه وجه صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- لشعبان دون غيره من الشهور. وفيه معان أخر، وقد ذكر منها النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أسامة معنيين: أحدهما: أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، يشير -صلى الله عليه وسلم- إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان: الشهر الحرام، وشهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولا عنه. وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه؛ لأنه شهر حرام، وليس كذلك. وروى ابن وهب قال: حدثنا معاوية بن صالح عن أزهر بن سعد عن أبيه عن عائشة قالت: ((ذُكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ناس يصومون رجبا؟ فقال: فأين هم عن شعبان)).
وفي قوله: ((يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان)) إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه، إما مطلقا أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه، ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم. وفيه: دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل، كما كان طائفة من السلف، يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة، وكذلك فضل القيام في وسط الليل لمشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)) ولهذا المعنى كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يؤخر العشاء إلى نصف الليل، وإنما علل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس.
ولما خرج على أصحابه وهم ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم: ((ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم)) وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له، ولهذا ورد في فضل الذكر في الأسواق ما ورد من الحديث المرفوع والآثار الموقوفة حتى قال أبو صالح: "إن الله ليضحك ممن يذكره في السوق"، وسبب ذلك أنه ذكر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة، وفي حديث أبي ذر المرفوع: ((ثلاثة يحبهم الله: قوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم، فقام أحدهم يتملقني ويتلو آياتي. وقوم كانوا في سرية فانهزموا فتقدم أحدهم فلقي العدو فصبر حتى قتل. وذكر أيضا قوما جاءهم سائل فسألهم فلم يعطوه فانفرد أحدهم حتى أعطاه سرا)). فهؤلاء الثلاثة انفردوا عن رفقتهم بمعاملة الله سرا بينهم وبينه فأحبهم الله، فكذلك من يذكر الله في غفلة الناس، أو من يصوم في أيام غفلة الناس عن الصيام.
وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد: منها: أنه يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد وربه. ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء. وقد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد، كان يخرج من بيته إلى سوقه ومعه رغيفان فيتصدق بهما ويصوم، فيظن أهله أنه أكلهما ويظن أهل سوقه أنه أكل في بيته. وكانوا يستحبون لمن صام أن يظهر ما يخفي به صيامه، فعن ابن مسعود أنه قال: "إذا أصبحتم صياما فأصبحوا مدهنين". وقال قتادة: "يستحب للصائم أن يدهن حتى تذهب عنه غبرة الصيام". وقال أبو التياح: "أدركت أبي ومشيخة الحي إذا صام أحدهم ادهن ولبس أحسن ثيابه".
ويروى أن عيسى ابن مريم عليه السلام قال: "إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته، وليمسح شفتيه من دهنه، حتى ينظر الناظر إليه فيرى أنه ليس بصائم".
اشتهر بعض الصالحين بكثرة الصيام، فكان يجتهد في إظهار فطره للناس حتى كان يقوم يوم الجمعة والناس مجتمعون في مسجد الجامع فيأخذ إبريقا فيضع بلبلته في فيه ويمصه ولا يزدرد منه شيئا، ويبقى ساعة كذلك لينظر الناس إليه، فيظنون أنه يشرب الماء، وما يدخل إلى حلقه منه شيء. كم يستر الصادقون أحوالهم! وريح الصدق ينم عليهم، ريح الصيام أطيب من ريح المسك، تستنشقه قلوب المؤمنين وإن خفي، وكلما طالت عليه المدة ازداد قوة ريحه.
كم أكتم حبكم عن الأغيار والدمع يذيع في الهوى أسراري كم أستركم هتكتمُ أسراري من يخفي في الهوى لهيب النار
ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية
وهبني كتمت السر أو قلت غيره أتخفى على أهل القلوب السرائر أبى ذاك أن السر في الوجه ناطق وأن ضمير القلب في العين ظاهر
ومنها: أنه أشقُّ على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس، وسبب ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهده من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس، فيشقُّ على نفوس المتيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدون بهم فيها، ولهذا المعنى قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (([color=green]للعامل منهم أجر خمسين منكم، إنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون)). وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء)) وفي رواية: ((قيل: ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس)). وفي صحيح مسلم من حديث معقل بن يسار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((العبادة في الهرج كالهجرة إليَّ)). وخرجه الإمام أحمد ولفظه: ((العباد في الفتنة كالهجرة إليَّ)). وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه، ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مؤمنا به، متبعا لأوامره، مجتنبا لنواهيه.
ومنها: أن المفرد بالطاعة بين أهل المعاصي والغفلة قد يدفع به البلاء عن الناس كلهم، فكأنه يحميهم ويدافع عنهم. وفي حديث ابن عمر الذي رويناه في جزء ابن عرفة مرفوعا: ((ذاكر الله في الغافلين كالذي يقاتل عن الفارين، وذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء في وسط الشجر الذي تحاتَّ ورقه من الصريد -والصريد: البرد الشديد- وذاكر الله في الغافلين يغفر الله له بعدد كل رطب ويابس، وذاكر الله في الغافلين يعرف مقعده في الجنة)). قال بعض السلف: "ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة، ولولا من يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس". رأى جماعة من المتقدمين في منامهم كأن ملائكة نزلت إلى بلاد شتى، فقال بعضهم لبعض: اخسفوا بهذه القرية، فقال بعضهم: كيف نخسف بها وفلان فيها قائم يصلي؟
ورأى بعض المتقدمين في منامه من ينشد ويقول:
لولا الذين لهم ورد يصلونا وآخرون لهم سرد يصومونا لدكدكت أرضكم من تحتكم سَحَرًا لأنكم قوم سوء ما تطيعونا وفي مسند البزار عن أبي هريرة مرفوعا: ((مهلا عن الله مهلا فلولا عباد ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا)) ولبعضهم في المعنى:
لولا عباد للإله ركع وصبية من اليتامى رضع ومهملات في الفلاة رتع صب عليكم العذاب الموجع وقد قيل في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251] إنه يدخل فيها دفعه عن العصاة بأهل الطاعة، وجاء في الآثار: "إن الله يدفع بالرجل الصالح عن أهله وولده وذريته ومن حوله". وفي بعض الآثار يقول الله عز وجل: "أحب العباد إليَّ المتحابون بجلالي المشاؤون في الأرض بالنصيحة، المشاؤون على أقدامهم إلى الجمعات" وفي رواية: "المعلقة قلوبهم بالمساجد والمستغفرون بالأسحار، فإذا أردت إنزال عذاب بأهل الأرض فنظرت إليهم صرفت العذاب عن الناس". وقال مكحول: "ما دام في الناس خمسة عشر يستغفر كل منهم الله كل يوم خمسًا وعشرين مرة لم يهلكوا بعذاب عامة" والآثار في هذا المعنى كثيرة جدا، وقد روي في صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبان معنى آخر وهو أنه تنسخ فيه الآجال، فروي بإسناد فيه ضعف عن عائشة قالت: ((كان أكثر صيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شعبان. فقلت: يا رسول الله أرى أكثر صيامك في شعبان؟ قال: إن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت من يقبض، فأنا لا أحب أن ينسخ اسمي إلا وأنا صائم)) وقد روي مرسلا وقيل: إنه أصح.
وفي حديث آخر مرسل: ((تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له ولقد خرج اسمه في الموتى)).
وروي في ذلك معنى آخر وهو: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وربما أخر ذلك حتى يصوم شعبان)) رواه ابن أبي ليلى عن أخيه عيسى عن أبيهما عن عائشة رضي الله عنها، خرجه الطبراني ورواه غيره وزاد: ((قالت عائشة: فربما أردت أن أصوم فلم أطق حتى إذا صام صمت معه))، وقد يشكل على هذا ما في صحيح مسلم عن عائشة قالت: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من كل شهر لا يبالي من أيه كان)) وفيه أيضا عنها قالت: ((ما علمته -تعني النبي -صلى الله عليه وسلم- صام شهرا كاملا إلا رمضان ولا أفطره كله حتى يصوم منه حتى مضى لسبيله)) وقد يجمع بينهما بأنه قد يكون صومه في بعض الشهور لا يبلغ ثلاثة أيام فيكمل ما فاته من ذلك في شعبان، أو أنه كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام مع الاثنين والخميس فيؤخر الثلاثة خاصة حتى يقضيها في شعبان مع صومه الاثنين والخميس.
وبكل حال فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- عمله ديمة، وكان إذا فاته شيء من نوافله قضاه، كما كان يقضي ما فاته من سنن الصلاة وما فاته من قيام الليل بالنهار، وكان إذا دخل شعبان وعليه بقية من صيام تطوع لم يصمه قضاه في شعبان حتى يستكمل نوافله بالصوم قبل دخول رمضان، فكانت عائشة حينئذ تغتنم قضاءه لنوافله فتقضي ما عليها من فرض رمضان حينئذ لفطرها فيه بالحيض، وكانت في غيره من الشهور مشتغلة بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن المرأة لا تصوم وبعلها شاهد إلا بإذنه، فمن دخل عليه شعبان وقد بقي عليه من نوافل صيامه في العام استحب له قضاؤها فيه حتى يكمل نوافل صيامه بين الرمضانين، ومن كان عليه شيء من قضاء رمضان وجب عليه قضاؤه بعد رمضان مع القدرة، ولا يجوز له تأخيره إلى ما بعد رمضان آخر لغير ضرورة، فإن فعل ذلك وكان تأخيره لعذر مستمر بين الرمضانين كان عليه قضاؤه بعد رمضان الثاني ولا شيء عليه مع القضاء، وإن كان ذلك لغير عذر. فقيل: يقضي ويطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا، وهو قول مالك والشافعي وأحمد اتباعا لآثار وردت بذلك. وقيل: يقضي ولا إطعام عليه. وهو قول أبي حنيفة. وقيل: يطعم ولا يقضي وهو ضعيف.
وقد قيل: في صوم شعبان معنى آخر: وهو أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرَّن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط. ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان، وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن. وروينا بإسناد ضعيف عن أنس قال: "كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبوا على المصاحف، فقرؤوها وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان"، وقال سلمة بن كهيل: "كان يقال شهر شعبان شهر القراء". وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: "هذا شهر القراء"، وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن"، قال الحسن بن سهل: "قال شعبان: يا رب جعلتني بين شهرين عظيمين فما لي؟ قال: جعلت فيك قراءة القرآن". يا من فرط في الأوقات الشريفة وضيَّعها وأودعها الأعمال السيئة وبئس ما استودعها:
مضى رجب وما أحسنت فيه وهذا شهر شعبان المبارك فيا من ضيع الأوقات جهلا بحرمتها أفق واحذر بوارك فسوف تفارق اللذات قهرا ويخلي الموت كرها منك دارك تدارك ما استطعت من الخطايا بتوبة مخلص واجعل مدارك على طلب السلامة من جحيم فخير ذوي الجرائم من تدارك | |
|